
أنا الموريسكي المنفي في مفازات النسيان، العائد كلما اشتدّ الخطب واحتدمت الجراح، أجدني اليوم عاجزًا عن الصمت، كأن التاريخ الذي ظننّاه دُفن وانطوى في النسيان صار ينهض من قبره، صارخًا في وجهنا:
أما زلتم لم تتعلموا؟ أما زلتم تسألون عن المذهب بينما النار تشتعل في جسد الأمة؟ رأيت بأمّ عيني، لا من نافذة منزلي المهجور في طليطلة، ولكن من خلال ما تبقّى فيّ من ضمير لم تنطفئ جذوته، رأيت صواريخ الكيان الغاصب وهي تمزّق جسد طهران، لا لأنّها تشكّل خطرًا نوويًا حقيقيًا، ولا لأنها أخلّت بتوازنات إقليمية وهمية، بل لأنها، ببساطة، لم تركع، لم توقّع، لم تبع، لم تسكت، لم تنحنِ كما انحنى كثيرون، بل صمدت، ودفعت ثمن مواقفها، وهي تُدكّ اليوم كما دُكّت بيروت بالأمس، وكما دُكّت بغداد قبلها، وكما ستُدكّ غدًا مدنٌ أخرى، واحدة تلو الأخرى.

إخوتي، ما دمنا نكتفي بالمشاهدة، ونتحصّن وراء حياد بارد لا يُسمن ولا يُغني من كرامة، حياد يشبه خيانة الصمت حين كانت الأندلس تستغيث، فلا من مجيب، ولا من ضمير حيّ يُنقذها، بل كان هناك أيضًا من يشمت، ومن يفرح، ومن يهلّل لزوال “خصمٍ مذهبي”، وكأنّ الاحتلال ينتصر للسنّة حين يقتل الشيعة، أو ينتصر للشيعة حين يُجهز على السنّة، وكأنّ الموت يعرف الفقه، أو يقرأ كتب العقيدة قبل أن يضغط على الزناد.
لقد ظنّوا أني متُّ مع سقوط غرناطة، وأن ذكري انطفأ كما تنطفئ الشموع في كنيسة بلا رهبان، بيد أني أعود اليوم لأنّ الوجع واحد، ولأنّ ما يجري في إيران ليس إلا مرآة أخرى لما جرى في الأندلس، وما جرى في العراق، وما يجري كل يوم في فلسطين، وسوريا، واليمن، ولبنان، مرآة تعكس فشل أمةٍ تمزّقت على أسوار المذاهب، وباعت دماءها في أسواق الطائفية، حتى باتت لا ترى من المذبحة سوى راية المذبوح، فإن وافقتها، بكت، وإن خالفتها، صفّقت، وكأنّ الإنسانية تنقسم إلى مللٍ ونحل، وكأنّ كرامة الإنسان قابلة للفرز المذهبي.
إني لأستشيط غضبًا، وأكاد أصرخ من أعماق غربتي الأبدية: أما آن لكم أن تستفيقوا؟ أما آن أن نكفّ عن هذا التواطؤ الجماعي مع القتلة، وهذا التغاضي عن جرائم مكتملة الأركان لمجرّد أن الضحية شيعي، أو فارسي، أو خصمٌ إقليمي؟ هل نحتاج أن يُذكّرنا العدو نفسه أننا أمة واحدة؟ هل علينا أن ننتظر طائراته كي تجمعنا من جديد على مذبح الدم؟
دعونا من السفسطة، من التبريرات الباردة، من مساحيق الحياد الأخلاقي التي تتزيّن بها أنظمة عربية بارعة في الخطابة، ضعيفة في الفعل، متقنة للتواطؤ، متقاعسة عن التضامن، متشاغلة عن المقاومة.
دعونا من التحاليل الجيو-استراتيجية، ومن المقولات الممجوجة حول “مخاطر التمدد”، و”هيمنة الهلال”، و”المشروع الصفوي”، فما يُدكّ في طهران الآن ليس نظامًا، بل فكرة أن تكون مسلمًا حرًا، مهما اختلفت معك الطوائف، وفكرة أن تقول لا، في زمنٍ باتت فيه كلمة “نعم” عملة للنجاة.
هيا إلى الوضوح، إلى الانحياز لجوهر العدل، لا لقوالب الهوية الضيقة، إلى التصريح لا التلميح، إلى الاعتراف بأن المعركة الدائرة اليوم تتجاوز إيران، وتتجاوز الصواريخ، وتتجاوز حتى البرنامج النووي، إنها معركة الوعي، والكرامة، والحق في أن نقول: لا للهيمنة، لا للغطرسة، لا لاحتكار القوة باسم “أمن الكيان”، لا لإعادة ترسيم خرائط المنطقة بجثث الشعوب.
إني أكتب هذه الكلمات بمدادٍ من الغضب العاقل، ومن الحزن الدفين، من التاريخ الذي يُعاد تدويره بأسوأ مما كان، وأصرخ كما صرخ أجدادي وهم يُساقون إلى سفن المنفى: لا تكرّروا خطأكم، لا تسلّموا مدنكم لأعدائكم، لا تفرّطوا في من يدفع الثمن عنكم، وإن اختلف معكم في الفروع. فالعبرة في الدم الذي يُسفك، لا في المنابر التي تُفتي، العبرة في الجسد المحترق لا في البيان الصحفي، في الطفلة التي تُبتر يدها لا في المقال الافتتاحي.
إني، أنا الموريسكي، المنفي منذ أكثر من خمسة قرون، أرى في ما يحدث الآن صورة طبق الأصل عن سقوطنا الأول، حين فرّقونا بالألقاب والعصبيات، ونسينا أن العدو كان ينتظر فقط لحظة الفرقة، ليدخل من أبوابنا المفتوحة. وها أنتم الآن، أمام مشهدٍ لا يُحتمل، تُعيدون اللعبة نفسها: هناك من يهلّل للقصف، لأن الضحية “لا تشبهه”، وهناك من يلوذ بالصمت، لأنه “لا يريد الخوض في السياسة”، وهناك من يختبئ خلف جداريات الفتنة، ويظنّ أن من يسقط اليوم، لا شأن له به، حتى إذا ما جاءه الدور، لم يجد من يبكي عليه.
إني لأحزن أن أرى عيونًا عربية تلمع فرحًا بقصف بلد مسلم، مهما كان الخلاف، وأتساءل: هل تحوّلنا إلى قطعان طائفية، نحتفل بالموت طالما أنه لا يخصّنا؟ هل أصبحنا مجرد جمهور في ملعبٍ دوليّ، نشجّع كل فريقٍ يقصف الآخر، دون أن ندرك أننا كلنا على أرض الملعب، وكلنا مستهدفون؟
إنّ العدوان على إيران ليس مسألةً تقنية، ولا ضربة عسكرية معزولة، إنه مشهد ضمن سلسلة، وحلقة في مسلسل إضعاف هذه الأمة، وترويضها، وتجفيف منابعها السيادية، وإخضاع من تبقّى فيها من عناد، ومن رفض، ومن كبرياء، ومن صوتٍ لا يُشبه صدى واشنطن وتل أبيب.
فإما أن نقف اليوم، أو نُسحق غدًا، إما أن نُعيد للضمير العربي بعضًا من عافيته، أو ننتظر دورنا في طابور الذبح. أما أنا، الموريسكي الذي مات قديمًا وعاد الآن بكلمات، فلا أملك سوى القلم، ولا أملك سوى هذا الصراخ النبيل، هذا الحنين إلى زمنٍ كانت فيه الكرامة أولى من المذهب، والوحدة أولى من التحليل السياسي، والدم أولى من الشعار.
أكتب لأقول: من الرباط إلى طهران، إلى صنعاء، إلى بغداد، إلى بيروت، إلى غزة، دمنا واحد، وعدونا واحد، وقضيتنا واحدة، وإنْ فرّق بيننا الفقه، فليجمعنا الألم. وإن مزّقنا العدوّ خارجيًا، فلا نكمل نحن عمله من الداخل.
فتعالوا إلى كلمة سواء، هيا إلى صحوة الضمير، هيا إلى زمنٍ لا نخجل فيه من التضامن، ولا نخاف فيه من الانحياز للحق، ولا نختبئ فيه وراء الفروق المذهبية لنُبرر الجبن. فوالله، إن الطغاة لا يهابون إلا من اتّحد، ولا يخشون إلا من استيقظ، وإن لم نصطفّ اليوم… فسنُدفن غدًا بلا أسماء، كما دُفِنت أنا، الموريسكي، ذات نكبة، ونسيني قومي، باسم الخلاف.



