أخبارالرئيسيةفي الصميم

حالة فصام… أم وعي مجروح؟

نعيش اليوم لحظةً فارقةيتقاطع فيها التاريخ بالفجيعة، وينهض فيها الإنسان من سباته لا ليصحُو، بل ليبرّره باسم الواقعية أو الضرورة. نحن لا نعيش فقط حالة من الفصام، بل نُقيم فيه كما يسكن الطير في قفصه؛ و لعلنا نحفظ تضاريس القفص أكثر مما نعرف فضاء الحرية. والمفارقة أننا نشتكي من الألم، ونطلب الدواء، ونحمل معنا الداء.. نربّت عليه كل مساء، ونقول له: “كن لطيفًا هذه الليلة، فغدًا لدي موعد مهم”.

بقلم: يوسف مسفيوي

المرض ليس انفصالًا عن الجسد، بل علامة على ما تراكم في الروح. إننا لا ننسى الحقائق، بل نتغاضى عنها كما يتعامى المبحر عن ضوء المنارة كي لا يرى الشاطئ الذي لم يعد له الحق في الوصول إليه. نُبصر من قتلنا، نُسلّم عليه، وربما نُعانقه، ونشكره على جرعة الدواء التي منحنا إياها بعد أن دسّ السم في خبزنا اليومي.

هل تساءلنا يومًا عن هذا الذي يأخذ المريض إلى المستشفى؟ عن هذه اليد التي تمدّ الدعم، وقد تكون هي اليد التي دفعت بنا في الأصل إلى هاوية المرض؟ قد يكون المنقذ هو نفس الجلاد، لكنه يُحسن التمويه. يُحدثك عن بؤس المستشفيات، وهو من يملك مفاتيحها. يبكي أمامك على أطلال القيم، وهو من نسفها ليلًا باسم الواقعية الاقتصادية. يندب حال العدالة، وهو من قيّد ميزانها. وإن سألته، أجابك بوجه كالحٍ: “أنا أيضًا متألم. أنا ضحية مثل الجميع”. وياله من جواب!

لا.. كفى من المبالغة! لسنا ضحايا فقط. نحن مشاركون في الجريمة، ولكن بصيغة الإنكار. نقف أمام الجلاد، لا لنُدين، بل لنُبرّر، ونضع السياط على أكتافنا كأوسمة بطولة. نجلس على مائدة الظالم وضمائرنا مشروخة، نحملق في الصحون، ونبتلع الخبز ومعه الخوف، ثم نحمد الله على النعمة، وندعو له بالبقاء. فن الكذب بات ضرورة وجودية، أما الصدق فقد أصبح نوعًا من الخيانة!

هكذا يتحوّل الإنسان إلى كائن بلا مرجعية، إلى مرآة مهشمة، لا تعكس إلا ظلالًا مشوّهة. يجلد نفسه كي ينسى أنه صمت يوم كان يجب أن يصرخ. يكره ذاته لأنها خضعت، ويُقنع نفسه أن القهر قدر، والقدر لا يُسائل.

من يفهم كلامي و قد اعتاد اغلبهم على الخطاب الخشبي، أو تشرّب لغة الخضوع؟؟ فالمجاز عندي ليس زينة، بل ضرورة. إنه محاولة يائسة لقول ما لا يُقال في عالم صارت فيه اللغة أداة للتغطية لا للكشف. لكني أؤمن، كما يؤمن الشاعر في لحظته العارية، أن كل كائن حيّ يمكنه أن يستعيد وعيه، إن هو غاص عميقًا في ذاكرته العاطفية.

ان الضمير الذي مات فينا، لم يمت بالكامل. إنه هناك، في قاع الذاكرة، يختنق تحت ركام الكذب الذي راكمناه بإخلاص. لقد صدّقنا الأكاذيب حتى باتت حقائق، ورفضنا الحقائق لأنها تُقلق نومنا. فصار الكذب دينًا جديدًا، والصدق رجسًا من عمل المجانين. وهل يُصدق العاقل في عالم تحكمه المجازفة بالكذب المنظّم؟

لكن كيف السبيل إلى التمييز؟ كيف نُعيد ترسيم الحدود بين الخير والشر، بين الطهر والدنس، بين ما هو حق وما هو مدجّن؟ الجواب – حسب ظني – لا يكون بالعودة إلى مظاهر الأشياء، بل بالتذكّر.
نعم، تذكّر ما فُقِد، لا ما تبقى. تذكّر ما سُرِق منك، لا ما قُدِّم لك من فتات. تذكّر إنسانيتك حين كانت في كامل ألقها، قبل أن تتحوّل إلى رقم، أو مادة خام في يد سوق لا تعرف الرحمة.

ان المجتمع المريض هو ذاك الذي يمرض كي لا يُحرج الطبيب، ويموت ببطء كي لا يُزعج السلطة. وهو ما نعيشه اليوم. فالمرض لم يعد استثناءً، بل نظامًا قائمًا. والحاكم الحقيقي هو ذاك “الفنان” الغريب الذي يرسم خطوط الألم على وجوهنا، ثم يبتسم في نشرات الأخبار ويُحدثنا عن التنمية البشرية ومؤشرات السعادة.

ذلك “الفنان”، يا صديقي، لا يبدع إلا في تعذيب الأرواح. يخلق الوهم، ثم يبيعك تذكرة النجاة منه. يزرع الهوس، ثم يطلب منك التريّث. يبعث الخوف، ثم يُقنعك أن الأمان تحت قدميه. يتركك تائهًا، ثم يدّعي أنه يملك الخريطة.

ومتى سألت عن العقل، عن الفكر، عن المشروع الحضاري، أجابوك بـ”أرقام النمو”، و”الاستقرار الأمني”، و” استراتيجية 2030″. وحين تسأل: أين الإنسان؟ أين الثقافة؟ أين الوعي؟ يضحكون ملء أفواههم، ثم يقولون: “هذا ترف.. هذا امر بعيد المنال..”

و الحق أننا نعيش تمزقًا وجوديًا. لا نعرف هل نحن على قيد الحياة أم مجرد أدوات في يد سوق أو سلطة أو دين منزوع الروح. نُصفّق ونحن نختنق، نرقص فوق رُكامنا، ونكتب قصائد في مديح سُجّاننا، ثم ننام.

لكن التاريخ لا ينام. والألم لا ينسى. والمستقبل لا يُبنى على الإنكار.

فإن كنت ممن يشعر بهذا الألم ولا يملك له اسما، فاعلم أنك ما زلت حيًّا. وإن كنت ممن يُصغي لنداء الضمير وإن كان خافتًا، فاعلم أن فيك بقايا نور. ذاك الذي يخافه الجلادون أكثر مما يخافون السلاح.

وختامًا، فإن أكبر مأساة نعيشها ليست في هذا الواقع المشوّه فقط، بل في قابليتنا له، في ترويضنا العاطفي له، في قبولنا به كقدر. ونحن نعلم أنه ليس قدرًا… بل صناعة محكمة.

وما الفصام، في حقيقته، إلا صرخة كائن يبحث عن اتساق بين داخله وخارجه، بين قلبه ولسانه، بين إنسانيته ومجتمعه.
فهل نملك شجاعة الاعتراف؟
أم نستمر في النفاق

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button