تاونات وسيادة المدن البلاطية “والمُتمدّنة”

ثمة مدن ومناطق كُتب عليها أن تظل قروية إلى الأبد، وعلى أهاليها أن يُصنفوا ضمن أبخس الفئات وأقلها اعتبارا.. فئات بلا حاضرة وهي في قلب حواضرها، وبلا قيمة اجتماعية بعد أن ضاعت منها بفعل التمييز الإقليمي وسيادة المدن البلاطية “والمُتمدّنة”.

تلك السيادة التي تضع أحيانا حدّا فاصلا بين صنفين من أبناء البلد الواحد: صنف “عروبي” بدوي في السلوك والأفكار، غبي ومنحط، وصنف “مْديني” متحضّر ومتفوِق، يعود له الفضل في ولادة التاريخ وصنع الحضارة.
لم أكن في بداية عمري، أنا ابن الانتماء التاوناتي، أعير اهتماما لنشأتي وأصولي.. لم أكن في تلك المرحلة لأستوعب الكلمات الحبلى بالإشارات والرموز السياسية والاجتماعية لأنها كانت، بكل بساطة، أقوى وأكبر مني، مثل “البداوة”، “التحضّر”، “الاندماج”، “التمدّن”.. لم أكن أيضا أعير اعتبارا لبطاقة الآخرين هل هي حضرية أم قروية، ولا لموطن نشأتهم أو لون جلدتهم.. ومع تعاقب السنين بدأت ألحظ بشيء من الوجع، نظرات الاستصغار التي تلاحق غير المنتمين من أمثالي للمدن البلاطية أو المدن المُتحضرة الحبلى بالرموز التاريخية والحضارية.
في صيف 1990، دُعيت لتثميل وكالة المغرب العربي للأنباء في أحد المجامع الثقافية بأصيلا. ولما أنهيت مداخلتي المرتجلة بالفرنسية ضمن المحور المتعلق بالإعلام الجهوي، التفت صوبي وزير الثقافة آنذاك، محمد بنعيسى، ليسألني بفضول ينم عن نزعة جهوية إن لم أقل عنصرية صارخة: من أية مدينة تنحدر أنت؟ ولما أجبته: “من تاونات” أدار وجهه على التو، ولم يتوجه لي ولو بكلمة واحدة أثناء إقامته القصيرة في المدينة. إن لم تُثر السخرية، فتاونات تبقى سُبّة على لسان الحُضّر المنحدرين من مدن بلاطية أو عصرية، مع أن المدينة كانت قلعة نضالية استعصت على الاستعمار الذي اكتشف أن جوفها زاخر بمنجم الكيف، فلم يلبث أن حولها إلى رئة اقتصادية هامة تدِرُ على السكان ما يكفي لتجنب مآسي الهجرة.. كان مزارعو المدينة يمدون الجارة فاس بأطنان من سنابل الكيف وبكميات هائلة من الزيوت والتين والبرقوق واللوز..، قبل أن يقتلعهم المستعمر من حقولهم ليرسلهم إلى مواقع الحدود مع ألمانيا النازية كي يحاربوا من أجل أن تعيش فرنسا كريمة مستقلة.
بُنيت الفيلات والملاعب والملاهي والمستشفيات بفاس، وظلت تاونات كما هي بوجهها القروي وبأهاليها الفطريين.. جلباب قصير المنكب إلى حد الركبتين، ورزة عريضة تقيهم من البرد والحر ويلفّون فيها بعض ما لديهم من وثائق ونقود.. كبُر جيل ما بعد الاستقلال، فتعلم أول ما تعلم من هذه الفطرية كيف يلبس الكوستيم والجلابة الفاسية، وكيف يحتسي قريعات من النبيذ المُعتّق أو يغازل حسناوات فاسيات أو حتى يُعلّق نصف دخله من الكيف للشيخات! لم يمض أكثر من أسبوع على حكايتي “التاوناتية” مع السيد بنعيسى، حتى فوجئت بالدكتور عز الدين العراقي، آنذاك وزير أول، في قمة الاعتزاز، أثناء لقاء حول “فاس، تراث إنساني عالمي” بالانتساب إلى مدينة فاس، يتباهى بها ويباهي بها مازحا أهل مراكش والرباط ومدن أخرى..وقد ختم مداخلته بلغة فرنسية بليغة : ”Etre fassi est une culture” (أن يكون المرء فاسيا، فتلك ثقافة). دوّنتُ المقولة، وتعمدتُ عدم إدراجها ضمن التقرير الإعلامي الذي حررتُه لحساب وكالة المغرب العربي للأنباء..
وما هي إلا أيام حتى دعاني السيد عبد الجليل فنجيرو، المدير العام للوكالة إلى مكتبه في أواخر دجنبر 1990، ليطلب مني الإنابة عنه في برنامج “رجل الساعة” التي كانت تديره باحترافية عالية، الصحفية فاطمة الوكيلي. كان ضيف البرنامج هو رجل الدولة والسياسي المحنّك، الراحل عبد الهادي بوطالب. وقد شاركت فيه إلى جانب الصحفيين، عبد اللطيف جبرو عن الاتحد الاشتراكي ومصطفى اليزناسني، مدير جريدتي “المغرب” و”الميثاق الوطني” آنذاك. ولأن الحلقة صادفت أحداث فاس الدموية خلال الإضراب العام الذي دعت إليه كل من الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، فإن موضوع فاس أخذ حصة الأسد، وكان نصيبي في هذه الحصة أن ذكرت الأستاذ بوطالب الذي هو فاسي النشأة والانتماء، بمقولة الوزير الأول، وسألته عما إذا كانت هذه المقولة هي ترجمة دبلوماسية لمقولة أقوى منها “إقليمية” إن لم أقل “عنصرية”، يحلو لأهل فاس ترديدها في غير ما مناسبة: “مَن بعد فاس ما بقاو ناس”..
وبينما كان الأستاذ بوطالب، وقد بدا عليه الحرج، يحاول إفراغ المقولة من كل حمولة عنصرية أو إقليمية، التفتُّ يمينا أسترق نظرات على الحضور، وكان اندهاشي قويا حينما رأيت في الصف الأمامي “صديقي” السيد بنعيسى، صاحب النظرة الدونية للقروي (أنا) ابن تاونات، وقد رسم على محياه ابتسامة عريضة، وكأنه ينتشي بالحرج الذي تسبب فيه السؤال للأستاذ بوطالب. حكايتي هاته لا تروم المؤاخذة أو التحامل على أي كان، ما دمت مقتنعا بأن منزلة الآدميين كانت وستظل، في المغرب كما في مصر وفي فرنسا وفي مختلف بقاع العالم، تقاس بالنّسب والعشيرة والمدينة.. فتاونات تبقى حاضرة قروية مهما حاول أهاليها الانصهار إلى حد الذوبان في المدن البلاطية أو العصرية.. والانتماء إلى فاس أو بغداد أو باريس أو القاهرة وغيرها من الحواضر العالمية، هو كما شرح ذلك الأستاذ بوطالب باقتدار، انتماء لروح الحضارات والثقافات التي تعاقبت على هذه المدن، فأفرزت كمّا هائلا من العطاء المتعدد تنهل منه اليوم كل شعوب الأرض على اختلاف ألوانها وأجناسها.غير أنه من المؤسف جدا أن يغيب عن أذهان بعض النخب المغربية، وعن بعض وسائل الإعلام المكرسة لهذا التمييز في الهوية والانتماء، أن الهوية الترابية قيمة اجتماعية وثقافية مضافة، وأن التاوناتي أو الفيلالي، قد يتأثران بأفكار علال الفاسي وعبد الكريم غلاب، دون أن يتخليا عن أعلامهما عبد العزيز المغراوي، وأبو الحسن الوطاسي (فن الملحون)، وقد يعجبان بتراث فاس ومعالم فاس دون أن يتنكرا للتربة التي ترعرعا في أحضانها..
لقد أصبح البدوي الأمي مواطنا وإنسانا متعلّما، رضع حليب الثقافة الفاسية والتطوانية والرباطية بالتأكيد، لكنه أدرك نسبيتها ضمن نسيج الثقافات المغربية، وعرف ما يأخذ منها وما يترك.



