
نفتتح هذا الدخول السياسي البرلماني في سنة استثنائية، حيث يدخل البرلمان موسمه الجديد، بينما تقف الحكومة على أعتاب سنتها الأخيرة. سنة ليست كسائر السنوات، فهي سنة الحصيلة والتقييم، سنة محاسبة الأقوال بالأفعال، والوعود بالنتائج.
لقد قُدِّمَت هذه الحكومة منذ تنصيبها على أنها “حكومة الكفاءات”، حكومة ستعالج اختلالات الماضي، وستمنح المغاربة الأمل في إصلاح حقيقي. لكن الواقع المرير كشف أن الأمر لم يكن سوى وهم، إذ تحولت سريعًا إلى “حكومة الإخفاقات”: إخفاقات في الصحة، إخفاقات في التعليم، إخفاقات في تدبير الماء، إخفاقات في الفلاحة، وإخفاقات في مواجهة البطالة وغلاء المعيشة.
المغاربة اليوم لا يسألون عن الشعارات، بل عن القدرة على الولوج إلى العلاج، عن المدرسة العمومية التي تحتضن أبناءهم، عن الماء الذي ينقطع في قراهم ومدنهم، عن ثمن الخضر واللحوم والوقود، وعن مستقبل أبنائهم الذي تلاشى في ظل بطالة مقنَّعة وهشاشة قاتلة.
الصحة: واجهة الإخفاق الأول
القطاع الصحي مثال حي على أن الشعارات لا تُعالج المرضى. خصاص في الأطباء، اكتظاظ المستشفيات، غلاء الأدوية، وغياب العدالة المجالية في الولوج إلى العلاج.
الأرقام الرسمية تكشف عمق الأزمة: المغرب لا يتوفر إلا على حوالي 2,05 إطار صحي لكل 1000 نسمة، بينما معيار منظمة الصحة العالمية هو 4,45 لكل 1000. الطبيب في القطاع العام يتحمل ما بين 2269 إلى 2587 مواطنًا، في وقت تظل البنية التحتية ضعيفة، والميزانية المرصودة للقطاع دون المتوسط الدولي.
النتيجة: مريض يبحث عن سرير ولا يجده، وأسرة تدفع أكثر من 60% من نفقات العلاج من جيبها، وهو ما يفضح غياب سياسة صحية عادلة ومنصفة.
التعليم: مدرسة بدون جاذبية
التعليم، الذي يفترض أن يكون بوابة التنمية، لم يسلم من الفوضى. إصلاحات متسرعة، مناهج متقلبة، ضعف في تكوين المدرسين، وهروب جماعي نحو التعليم الخصوصي.
ورغم بعض المؤشرات الإيجابية الشكلية، مثل بلوغ نسبة التمدرس ما قبل المدرسي حوالي 78,7% سنة 2023-2024، فإن النزيف مستمر: أكثر من 294 ألف تلميذ غادروا المدرسة في موسم واحد، نصفهم تقريبًا من العالم القروي. أما في التحصيل، فتقارير دولية كـ PISA تكشف أن ثلث التلاميذ لا يحققون الحد الأدنى في القراءة والرياضيات.
هكذا تحولت المدرسة العمومية من رافعة للترقي الاجتماعي إلى عنوان للأزمة.
الماء: ندرة وغياب حكامة
الماء، عصب الحياة، يعيش اليوم أزمة حقيقية تكشف محدودية السياسات الحكومية وغياب رؤية استراتيجية تضمن الأمن المائي. فالمواطن يعاني من انقطاعات متكررة ومتتالية في التزويد بالماء الصالح للشرب، لم تعد مقتصرة على القرى النائية فقط، بل طالت حتى المدن الكبرى، في حين يواجه سكان العالم القروي مشقة اللجوء إلى الصهاريج والآبار التقليدية بتكاليف مرهقة. أما الفلاح الصغير، فيقاسي شح مياه السقي وارتفاع الكلفة مما يهدد موسمه ومعه الأمن الغذائي الوطني. هذه الاحتياجات المتكررة في مناطق عدة من البلاد، من الجنوب الشرقي إلى سوس والريف، تؤكد تفاقم الفوارق المجالية وغياب العدالة المائية، حيث تدار الموارد بمقاربات ترقيعية بدل حكامة رشيدة ومستدامة، في تناقض مع التوجيهات الملكية التي دعت مرارًا إلى جعل الأمن المائي أولوية قصوى.
الفلاحة: الأمن الغذائي في خطر
القطاع الفلاحي، ركيزة الأمن الغذائي، يعيش بدوره ارتباكًا واضحًا. الفلاح الصغير مُهمّش، أسعار المدخلات مرتفعة، الإنتاج هش ومتأثر بالتقلبات المناخية.
رغم الاستراتيجيات المعلنة، يستمر المغرب في استيراد جزء كبير من حاجياته الغذائية الأساسية، في وقت لم تنجح فيه الحكومة في صون حقوق الفلاحين أو ضمان سيادة غذائية حقيقية.
البطالة والقدرة الشرائية: معاناة المواطن اليومية..
إخفاقات الحكومة لم تتوقف عند القطاعات الاجتماعية الحيوية، بل امتدت لتضرب في عمق الوضع الاقتصادي والمعيشي للمغاربة. فقد بلغ معدل البطالة الوطني 13,1% سنة 2023، فيما وصل بين الشباب في المدن إلى مستوى ينذر بالخطر عند 33,3%، ما يعكس عجز الحكومة عن خلق فرص الشغل وفتح آفاق الأمل أمام هذه الفئة. وفي موازاة ذلك، انهارت القدرة الشرائية تحت ضغط موجات الغلاء المتتالية، حيث ارتفعت أسعار المواد الأساسية بأكثر من 20% خلال السنتين الأخيرتين، لتجد الأسر المغربية نفسها أمام معاناة يومية متصاعدة. أما الطبقة المتوسطة، التي كانت تاريخيًا صمام أمان اجتماعي ورافعة للتنمية، فقد بدأت تتآكل بشكل مقلق، بعدما صارت عاجزة عن مواجهة تكاليف السكن، التعليم، العلاج والنقل، وهو ما ينذر بتوسع قاعدة الفقر والهشاشة في غياب تدخل حكومي فعال ومسؤول. لقد ساهمت هذه السياسات المرتبكة في خلق أزمة ثقة حقيقية، حيث يشعر المواطن أن الحكومة تخلت عنه وتركت السوق ينهش دخله اليومي.
الفوارق المجالية: جهة الشرق نموذجًا ومرجعية خطاب العرش
من أبرز ما كشفته المرحلة استمرار الفوارق المجالية بشكل صارخ. جهة الشرق تمثل نموذجًا حيًا لهذه المعضلة: معدلات البطالة فيها من بين الأعلى وطنيًا (تجاوزت 20% في بعض الأقاليم)، مع ضعف الاستثمارات المهيكلة وغياب مشاريع كبرى تخلق دينامية اقتصادية واجتماعية.
رغم موقعها الاستراتيجي كبوابة نحو أوروبا وإفريقيا، ما تزال الجهة تعاني من تهميش واضح، يظهر في هشاشة البنية التحتية، ضعف العرض الصحي والتعليمي، وانقطاع الماء بشكل متكرر.
وقد جاء خطاب العرش ليؤكد بوضوح أنه لا مجال لمغرب بسرعتين: مغرب النخبة المستفيدة من ثمار التنمية، ومغرب الفئات المحرومة التي تعيش التهميش، خاصة في العالم القروي. لكن الحكومة، بدل أن تُقلص هذه الهوة، تركتها تتفاقم، مما يهدد التماسك الاجتماعي ويجعل العدالة المجالية مجرد شعار معلّق.
ما بين الحساب والرهان الانتخابي
نحن اليوم أمام حصيلة كارثية لا ترقى إلى حجم الانتظارات ولا إلى مستوى الشعارات التي رُفعت في بداية الولاية. حكومة ادعت أنها حكومة كفاءات، فإذا بها حكومة إخفاقات. والآن، في سنتها الأخيرة، تُحاول أن تُغطي الفشل بخطابات انتخابية استعدادًا للاستحقاقات المقبلة، لكن الحقيقة واضحة: القطاعات الحيوية في حالة تراجع خطير، والفوارق المجالية والاجتماعية تتعمق يومًا بعد يوم.
المغاربة يستحقون حكومة فعل لا حكومة شعارات، حكومة إنجاز لا حكومة تبرير. الدخول البرلماني لهذه السنة يجب أن يكون مناسبة للمساءلة والمحاسبة الصارمة، وفرصة لإبراز أن البديل الديمقراطي الاجتماعي موجود، برؤية إصلاحية جادة تجعل من الصحة، التعليم، الماء، الفلاحة، ومحاربة البطالة والفوارق المجالية أولويات وطنية حقيقية، لا أوراقًا انتخابية ظرفية.



