أخبارالرئيسيةفي الصميم

مسرحية الهروب الكبير من المسؤولية

بقلم: *زهير أصدور

تُظهر المشاهد السياسية المتتالية في المغرب خلال الأسابيع الأخيرة مؤشراً واضحاً على انزياح عميق في منطق المسؤولية الحكومية، تجسده بشكل صارخ طريقة تفاعل عدد من أعضاء الحكومة مع الرأي العام، خاصة بعد الخرجات الإعلامية المتتالية لبعض زعماء أحزاب الأغلبية، وعلى رأسهم نزار بركة، الذي آثر الظهور بصفته الحزبية كأمين عام لحزب الاستقلال، لا كوزير في حكومة قائمة على تحالفه السياسي.

هذا السلوك، الذي قد يبدو في ظاهره عادياً أو “تواصلياً”، يخفي في جوهره إشكالية سياسية ودستورية خطيرة تتعلق بحدود المسؤولية ومفهومها في النظام السياسي المغربي.
فالوزير، حين يتحدث إلى المواطنين بصفته الحزبية، إنما يفصل ذاته عن موقعه الحكومي، وكأنه لا يتحمّل وزر القرارات العمومية التي يتخذها في إطار السلطة التنفيذية، بل يتقمص دور المراقب أو الفاعل الخارجي الذي يعبر عن رأي الحزب لا الحكومة.

إننا هنا أمام مفارقة مزدوجة:
من جهة، تسعى الحكومة إلى تسويق صورة من الانسجام والتماسك بين مكوناتها أمام المؤسسات العليا والرأي العام الدولي؛
ومن جهة ثانية، نلاحظ نزوعاً متزايداً لدى قادتها نحو التمايز الاتصالي والسياسي، بما يجعل المواطن أمام مشهد ضبابي:
من المسؤول فعلاً عن القرارات؟ الحزب أم الحكومة؟ الوزير أم السياسي؟

إن “خرجة” نزار بركة لم تكن حدثاً عرضياً، بل هي تعبير صريح عن أزمة أعمق في الثقافة السياسية للحكومة الحالية، التي تبدو عاجزة عن تحمل مسؤولياتها أمام الشعب، فتلجأ إلى أسلوب “التمويه المؤسساتي” عبر ارتداء قبعات متعددة حسب الظرفية:
قبعة الوزير حين يكون الخطاب احتفالياً، وقبعة الحزبي حين يكون المشهد مأزوماً.

هذا الانفصام في الخطاب يترجم ما يمكن وصفه بـ مسرحية الهروب الكبير من المسؤولية، حيث لم يعد الوزير ناطقاً باسم الحكومة، بل متحدثاً باسم تنظيم سياسي يبحث عن تبرئة ذاته من سياسات حكومية يشارك في صياغتها وتنفيذها.
وهو ما يُفقد الخطاب الرسمي مصداقيته، ويضعف الثقة في المؤسسات، ويعمّق الهوة بين المواطن والفاعل السياسي.

هذه الظاهرة تعكس خللاً بنيوياً في مفهوم المحاسبة العمومية، إذ لا يمكن الفصل بين المسؤولية السياسية والمسؤولية الحكومية في النظام البرلماني المغربي الذي يقرّ مبدأ التضامن الحكومي.
فالوزير ليس فاعلاً حزبياً مؤقتاً، بل هو جزء من سلطة تنفيذية مسؤولة أمام البرلمان والمواطنين.
وحين يتحدث بصفة حزبية في سياق أزمة، فإنه عملياً يعلّق صفته الحكومية مؤقتاً، وهو ما يُعدّ إخلالاً بالمنطق الدستوري لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.

إن هذا السلوك الاتصالي يكشف عن أزمة أعمق من مجرد خلل في الخطاب؛ إنها أزمة في ممارسة السلطة ذاتها، حيث يتم استغلال التعدد الوظيفي (الحزب–الحكومة–الجمعية) كآلية للهروب من المساءلة.
وتتحوّل المؤسسات إلى فضاءات لتبادل الأدوار لا لتحمل المسؤوليات.

إن الخطورة هنا لا تكمن فقط في ضعف التواصل السياسي، بل في تآكل رمزية الحكومة التنفيذية، حين يفقد الوزير موقعه كفاعل مسؤول ويتحول إلى مجرد واجهة خطابية عائمة بين الانتماء الحزبي والوظيفة الحكومية.
وحين يحدث ذلك، تصبح الثقة السياسية في المؤسسات مهددة، لأن المواطن لم يعد قادراً على تحديد من يخاطبه ومن يقرر مصيره.

إن “مسرحية الهروب الكبير من المسؤولية” ليست حدثاً معزولاً، بل علامة على تراجع أخلاقي وسياسي في الممارسة الحكومية، حيث يُستبدل واجب الشفافية بخطاب التبرير، ومبدأ المحاسبة بمبدأ الإعفاء الذاتي.
وإن استمرار هذا السلوك سيقود حتماً إلى مزيد من التآكل في الشرعية السياسية للحكومة، ما لم يتم استعادة الانسجام بين الصفة الحزبية والصفة الحكومية على قاعدة واحدة:
أن المسؤولية لا تتجزأ، وأن من يتحدث باسم الحزب اليوم لا يمكنه أن يتنصل من قرارات الحكومة غداً.
إنها لحظة سياسية تتطلب شجاعة في الاعتراف، أكثر من براعة في التنصل.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button