تعال أيها البحر

قيل عن البحر إنه أبونا الثاني؛ ليس لأننا خرجنا من مائه كما تدّعي نظريات داروين، بل لكوننا نعود إليه كلما خنقتنا اليابسة. ولعلّ أكثر الأقوال التي ظلت ترنّ وتطنّ في رأسي كانت: “البحر مثل الحب… لا يخون من غرق فيه طوعًا”.
كورونا… زمن مضمّخ بالنهايات، ومغموس في ماء اللايقين…

“مئة يوم من الحجر، يا صديقي، جعلت من فراشي سجادة صلاة، ومن حنيني للبحر فرضًا مقدسًا… صرت أستيقظ يوميًا عند الرابعة والنصف، ليس لأداء الفجر فحسب، بل لأعقد مع الله واليَم صفقة سرّية. صليتُ يومذاك ركعتين بخشوع كبير يمتد بين البر والبحر، فالله يعلم أني كنتُ حبيسًا لهذه الجدران، لكن القلب كان هناك، حيث تمتد الزرقة التي لا تنتهي، وتُلقى فوقها كل آثامنا ونحن نتطهر بالسباحة في أعماق هذا المجنون الذي لا يُقاوم”.
كان فريد يسبقني نادرًا، وأحيانًا يتأخر عني عمدًا كي يستعرض عضلاته الفلسفية في الطريق:”هل كنتَ لتجرؤ على السباحة فجرًا في الأيام الخوالي؟” سألني ذات مرة وهو يشعل سيجارته الثالثة قبل طلوع الشمس.لم أحتج إلى التفكير، وأجبته مباشرة:”حبسونا وخنقونا حدّ الموت باسم الوباء… الوباء هو السجن، يا صاحبي…”قهقه حتى دمعت عيناه، وكانت ضحكته تشبه البحر حين يستفزّ اليابسة بموجه، ثم يتراجع بخبث.
وهنا، وسط السكون، تذكرتُ ألبير كامو حين قال: “في منتصف الشتاء، وجدت داخلي صيفًا لا يُقهَر.”كم كنا نحتاج إلى صيف لن يتكرّر، مثل ذاك…
لم تكن أيامًا تتوالى، بل طقوسًا تنسج نفسها بخيوط دقيقة من الجنون والعزاء. كنا نصل الشاطئ كما لو كنا نصل إلى العتبة الأخيرة للحرية، هناك حيث لا كمامات، ولا أخبار، ولا عدّاد وفيات… فقط بحر: صامت أحيانًا، مجنون أحيانًا، مثلنا تمامًا.
كنا نخلع أحذيتنا كما يخلع السجين ثيابه لحظة العفو، وندخل الماء بخطى مترددة أول الأمر، ثم نغوص فيه كما لو كنا نطلب مسح الذاكرة، وما علق بها من أحزان. وفي كل مرة، كان فريد يلتفت إليّ ويقول:”ساعة صفاء مع البحر خير من أربعٍ وعشرين ساعة على اليابسة، أليس كذلك؟”كنت أوافقه دون أن أجيبه. فماذا عساي أقول؟ أنني شعرت في أحد الأيام أنني أُولد من جديد؟ أن البحر نادى باسمي مثل أمٍّ تنادي طفلها المفقود؟ تلك مبالغات لا تُقال إلا في الشعر الحرّ الرديء الذي لا يقرؤه أحد…
ثم كنا نعود، دون أن نتبادل الكثير من الكلام. وكنت أصل إلى البيت، أفتح الدوش على الماء البارد، وأترك جسدي يذوب تحت دفقاته، وأغمض عينيّ وأتوه في الأحلام.هناك، في أذني، يبدأ صوت النوارس: لا أعرف كيف، لكنه يخرج من مكان عميق، كأن ملايين الأصداف في بحار الدنيا قررت أن تصرخ جميعها في لحظة واحدة. وهناك أيضًا، في أعمق نقطة من روحي، كنت أسمع هدير الأمواج…
وفي اليوم الحادي والعشرين، قال لي فريد بنبرة بين الجد والهزل:”أتعرف ما الذي ينقص هذا الروتين؟ حورية البحر… لنناقش معها شيئًا من السياسة وأحوال البلاد والعباد!”ضحكت، ثم فكّرت أن الحوريات انقرضن منذ زمن، أو ربما هاجرن إلى بلدان أكثر حرية. نحن فقط من نظل نأتي إلى البحر كي نخدع أنفسنا أن العالم لم يتغيّر كثيرًا.
وتوالت الأيام، وكان البحر يزداد صمتًا كلما علا صخبنا واندفاعنا… وذات مرة، قال لي فريد:”هل لاحظت أن البحر تغيّر؟ كأن فيه مرارة زائدة؟”أجبته: “لقد خرجنا من الحجر المنزلي بقلوب مهشّمة… ربما لأننا صرنا نغسل فيه كل أوهامنا… هذا هو السر على ما يبدو…”وضحك فريد محدثًا زلزالًا صغيرًا حوله، لكن لحسن الحظ لم يلتفت إليه أحد، لأن الساعة كانت الخامسة صباحًا، وكنا بمفردنا بين أحضان أمواجك الحنونة المثلجة، أيها البحر… وبعد دقيقتين، خرج ورمى حصاة في الماء وقال:”أحيانًا أفكر أننا نحن من تغيّرنا، والبحر فقط مرآة لنا… لست أبالغ. فما رأيك أنت؟”
رأيي؟اليوم، بعد أن أصبح الحجر في خبر كان، ورجعت الحياة تقريبًا إلى بشاعتها وبؤسها المعهودين، ما زلت أستيقظ دائمًا عند الرابعة والنصف، أصلي ركعتين، ولا أذهب دائمًا إلى البحر، لكني أغمض عينيّ وأصغي إلى سمفونية الكون:الصوت الساحر لا يزال يتموج في أذنيّ، غناء النوارس، المدّ، دبيب الحياة وهي تتنفس خارج جدران الخوف.
فريد…أنت أول من يقرأ هذه القصة قبل أن تُنشر…اسمعني ولا تقاطعني كعادتك:البحر يا صديقي، ليس فقط تصاهرًا بين الماء والملح، إنه ميدان الوغى… نعلّق فيه هشاشتنا، ونغسل فيه التاريخ والحاضر، لنعود منه إلى ذواتنا أكثر جمالًا وصفاء..
هذا هو، يا فريد…



