
بقلم: د. مهدي عامري- خبير وأستاذ الذكاء الاصطناعي والتواصل
ترددت كثيرًا قبل أن أعقد العزم على أن أشارك معك هذه الخاطرة. لكن صوت العقل يهتف بي: لِمَ التردد؟ اكتب ما يجيش به صدرك ولا تهتم بالنتائج، فهذه الأخيرة أولًا وآخرًا في يد الله..
نِعمَ المولى ونعم النصير.
تبيّن لي من خلال أزيد من 15 سنة من تجربة التعلّم والتدريس بين فرنسا وتونس والمغرب أن أول من يستفيد من عملية التدريس هو المدرس نفسه، لا التلاميذ كما يعتقد الكثيرون لأول وهلة. ولعله من المستغرب أن يظن البعض أن التعليم يسير في اتجاه واحد، وأن المعرفة تتحرك من الأعلى نحو الأسفل، من المعلم إلى المتعلم. لكن الحقيقة التي يلمسها ويحسها من عاش لسنوات بين الفصول، هي أن المدرس حين يشرح ويفكر ويختبر صبره، ويصطدم بأسئلة أصعب من الإجابات، فإنه يتعلم أضعاف ما يلقّن.
تخيل معي مدرسًا يقف كل يوم، يحمل بين يديه بذورًا صغيرة من المعارف والتجارب والتصورات، ويرميها في مساحات مختلفة، بعضها ذو تربة خصبة وبعضها صخري وبعضها لا نعرف طبيعته إلا بعد حين.
شتّان بين فلاح الأرض الذي ينتظر المطر، وفلاح الروح الذي ينتظر اليقظة. وهذا يعني بلا أدنى شك أن المدرس فلاح بامتياز لأنه لا يضمن نموّ ما زرعت يداه، ولا يعلم مآل محصوله. قد تنبت بذرة الآن، وقد تنبت بعد سنوات، وقد لا يعرف هو أصلًا أنها نبتت. حسبه أن تنمو بذرة واحدة أو اثنتان، وأن تثمر شجرة ولو بعد حين. أليس كذلك؟ أَلا يجسد هذا المعنى القرآني العظيم: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا”؟
إن الواقع المر في 2025 يكشف لنا أن كثيرًا من التلاميذ لا يبحثون عن المعرفة، بل يسعون فقط إلى الشهادة. لقد أصبح السؤال الذي يكرر نفسه بلا نهاية: “كيف أنجح؟” بدل: “ماذا أفهم؟”. كما أصبح التحصيل غاية ظاهرية لا بناءً وتطويرًا ذاتيًا للمهارات والقدرات. ومع ذلك، فإن الفرصة الأخيرة للمدرس كي يحافظ على معنى رسالته هي أن يعي أن التعليم مقاومة صامتة لا موافقة مطلقة على الظروف. في هذا السياق يؤكد بياجي أن العقل لا يتلقى المعرفة جاهزة، بل يبنيها من الداخل عبر الاحتكاك والتجربة. وهنا يتأكد أن دور المعلّم ليس في ملء الذاكرة، بل في إشعال القدرة على الفهم. أما أرسطو، فقد رأى منذ قرون خلت أن المعلم يمنح المتعلم المادة الأولية للتفكير، وليس التفكير ذاته؛ أي أنه يمنح بداية الطريق لا نهايته.
ومن زاوية أخرى، تأتي قراءة ابن عربي التي ترى أن العلم نور يُلقى في القلب قبل أن يكون توصيلًا للمعلومات. فالمعلم الذي لا يتواضع أمام “سعة المجهول” يفقد قدرته على الإشراق. يقول ابن عربي: “العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور يقذفه الله في القلب.” فالمعلم إن لم يكن قلبه حيًا، فلن يحيي أحدًا. أما إدغار موران، فيؤكد أن التعليم ليس تبسيطًا للعالم، بل هو إدخال المتعلم في الطابع المركّب والمتعدد الأبعاد للعالم؛ لأن الإنسان في جوهره كائن مركّب، يتكون من عقل وعاطفة وتجربة وذاكرة وجسد وتاريخ. وهنا يصبح الفصل الدراسي مختبرًا حيًا للإنسان بعيدًا عن كونه فضاءً للحشو والتلقين.
قد يشعر المدرس أحيانًا بأن جهده ضائع، وأن التلاميذ يمرون أمامه مرور الغيوم بلا أثر. لكنه ينسى أن الشجرة حين تنمو لا نسمع صوتها. وأن الوعي حين يتشكل لا يُعلن عن نفسه. يقول باولو فريري: “حين يتعلم الإنسان أن يسمي العالم، يبدأ بتغييره.” ودور التعليم هنا هو تعليم تسمية العالم، لا فرض تفسير واحد له. من جهته، فإن الجابري حين انتقد العقل العربي لم يفعل ذلك ليهدمه، بل ليعيد ترتيب ملكاته وفق التحليل والتركيب بدل الحفظ والتقليد. وهذا يعني باختصار أن التدريس، في جوهره، صناعة للأسئلة و ليس توليدًا للأجوبة الجاهزة.
قد يبدو هذا الواقع محزنًا محبطًا للعزيمة، لكن الإيمان بالله وأساسه المتين فلسفة التفاؤل يقتضي منا أن نستمر رغم كل الظروف؛ أن نعلّم حتى لو بدا أن لا أحد يستمع؛ أن نشرح حتى لو بدت العيون غارقة في الشاشات؛ أن نزرع حتى لو بدت الأرض جدباء قاحلة. فالمعلم لا يعمل من أجل الحاضر فقط، بل من أجل ما سيتحقق في المستقبل وربما بعد رحيله. وهنا يمكن لكل مدرس صادق أن يناجي ربه بهذه الكلمات:
إلهي، هل بلغت؟ إن كان الأمر كذلك، اللهم فاشهد.
بناء على هذا المعطى، فإن استمرار المدرس في رسالته لا يعني الجمود. فالتعليم يحتاج إلى التكيف مع الواقع، لا الانسحاب منه، أي أننا نحتاج إلى تحويل الدرس من الخطاب إلى الحوار، ومن التلقين إلى البناء، ومن المفاهيم المغلقة إلى الأسئلة المفتوحة. إننا نحتاج إلى ربط المعرفة بحياة الطلاب، لا تقديمها كنصوص بلا روح. إننا نحتاج أن نرى التلميذ لا كـ”وعاء” يجب ملؤه، بل كذات تبحث عن معنى في عالم يفيض نسخًا متكررة وتفاهة متصاعدة. وهنا يصبح الأستاذ ذاته مشروعًا تربويًا يتطور كل يوم، لا قالبًا معرفيًا متحجّرًا.



