أخبارالذكاء الاصطناعي AIالرئيسيةثقافة و فن

الحلم الغامض

يقول الراوي :

بقلم : د/ مهدي عامري

” رأيت فيما يرى النائم أني كنتُ في جامعةٍ مطلّةٍ على البحر، وكانت الأمواج يومذاك هادئة توحي للناظر اليها بالهدوء و السكينة. جئتُ إلى قاعة الدرس في الثانية بعد الظهر، وأنا أحمل بين يدي أوراقًا سطرتُ فيها بعض المعارف الجديدة التي اكتسبتُها في السنوات الأخيرة، وقد عزمتُ أن أُشرك الطلبة في هذا الزاد الفكريّ الذي أنضجته التجربة.

جلستُ أنتظر، والكراسي المقابلة لي فارغة تماما. مرّت الدقائق كأنها الأعوام المديدة، ولم يظهر طالبٌ واحد. تردّدتُ بين أن أبتسم أو ألعن هذا الموقف، غير أن الصمت نفسه كان يلعنني على المباشر. تساءلتُ: أين هم؟ هل نسوا موعد الدرس؟ هل نسي الشباب معنى اللقاء؟ وكنتُ أسمع في داخلي ضجيجًا يائسًا، كأنّها خيبة أملٍ تنزلق من الرأس إلى القدم، لم أعرف مثلها إلا في الأوقات التي ينخلع فيها القلب أمام هول الحقيقة. حاولتُ أن أتماسك، فجمعتُ أوراقي، وقلتُ في نفسي: «لا يهم». ثم خرجتُ أجرُّ قدمي على الممرّ المظلل باشجار البلوط. كان وجودي هناك يمضي بلا اكتراث، كما الأمواج تنتهي إلى مصيرها الأبديّ.

لم أكن أملك سوى بعض الساعات الإضافية أدرّس فيها، وما أتقاضاه منها بالكاد يكفي للعيش في مجتمعٍ طحنه الغلاء وجرّده التضخّم من الأمان. لم يكن في داخلي من الرضا ما يكفي، ولا من السخط ما يقتل. كنتُ معلّقًا بينهما، كمن ينتظر نداءً من الغيب ليعرف إن كان على قيد الأمل أم على مشارف اليأس.

جلستُ في كافيتيريا الكلية، وكانت الساعة تقترب من الرابعة. الشمس تميل إلى الغروب، والبحر يمدّ لسانه من بعيد، كأنه يسخر من انكساري. كنتُ أبحث عن سببٍ بسيط لأبتسم، ففوجئت بخالي إبراهيم – و هو من أغنى رجال الأعمال في المدينة – جالسًا على مائدةٍ عامرةٍ بما لذّ وطاب من صنوف الطعام. كان يأكل بشهيةٍ المقبل طولا و عرضا على الحياة، وعلى وجهه تلك السكينة التي لا يملكها إلا من ترك التفكير في المشاكل و الهموم. اقتربتُ منه وأنا لا أصدق عينيّ، فنهض يعانقني بحرارة، ثم قرص خدّي وقال مازحًا: «لم أتوقع أن أجدك هنا يا سعيد !» ضحكتُ، وقلتُ له وأنا ألتقط أنفاسي: «وأنا لم أتوقع أن أراك أنت في هذه الجامعة! ماذا تفعل هنا؟» رفع عينيه نحو السماء، وكأنه يبحث هناك عن إجابةٍ ضاعت منذ زمن. لم يجب. كانت شفتاه تتحركان في صمتٍ غريب، كأنه يُنصت إلى كائنٍ لا أراه. وفي تلك اللحظة جذبني إلى صدره بقوة الأب الحنون، وشممتُ منه رائحة العود والعنبر، و سكنتُ بين ذراعيه لحظةً، ثم سمعتُ همسًا يمرّ من أذني اليمنى إلى قلبي مباشرة: «عما قريب ستصبح أغنى من خالك».

تجمّدتُ. التفتُّ حولي فلم أجد أحدًا، لا طالبًا ولا نادلًا، فقط البحر يلوّح لي من وراء الزجاج كأنه يعرف السرّ. نظرتُ إلى خالي، فإذا به يبتسم دون أن يقول شيئًا، ثم عاد إلى طعامه في سكينة. لم أدرِ أكان ما سمعته نداءً من العالم الآخر أم صدىً لخيالاتي المتعبة. تركته يغرق في صمته، وخرجتُ من الكافتيريا مثقلاً بذلك الهمس الذي سيغيّر حياتي.

عدتُ إلى البيت مساءا وأمواج البحر تتعقبني في خيالي المتعب، كأنها تريد أن تذكّرني بشيءٍ نسيته قبل أن أولد. ألقيتُ بجسدي على السرير، وأغمضتُ عينيّ، فاستيقظتُ في الحلم نفسه من جديد. رأيتُ نفسي أعود إلى الجامعة ذاتها، في اليوم ذاته، عند الساعة الثانية، وأدخل القاعة ذات المقاعد الفارغة. كانت الأوراق ما تزال على الطاولة، والقلم في مكانه، غير أني هذه المرة لم أنتظر الطلاب.

جلستُ أنظر إلى البحر من النافذة، فبدا لي أوسع وأقرب من أي وقتٍ مضى. كانت الأمواج تُحدّثني بصوتٍ يشبه صدى خالي حين قال لي: «عما قريب ستصبح أغنى من خالك». رأيتُ في تلك اللحظة خالي يمشي على سطح الماء، ببدلته الرمادية وربطة عنقه الحريرية، ويدعوني بيده قائلاً: «هنا لا أحد يتأخر عن موعده.» أردتُ أن أتبعه، لكني ترددت. تذكرتُ أني تركتُ أوراقي مفتوحة على الطاولة، وأن شيئًا في داخلي يأمرني بالبقاء. ابتسمتُ وعدتُ إلى مكاني، لأجد المقاعد تملؤها أطيافٌ شفافة بلا ملامح، كأنها انعكاساتٌ من زمنٍ آخر. ظللتُ أحدّق فيها طويلاً حتى شعرتُ أن البحر يقترب شيئًا فشيئًا من النافذة، حتى غمر الضوءُ المكان كلّه وصار الصفّ سفينةً تمخر عباب الغيب.

استيقظتُ على ضوء الفجر ينساب من الشرفة، والمدينة غارقة في صمتٍ لا يشبه سوى ما بعد الوحي. جلستُ على السرير أستعيد ما جرى، فلم أعرف إن كنتُ نمتُ أم استيقظتُ للتوّ من حلمٍ داخل حلم. نظرتُ إلى يدي فوجدتُ عليها أثر ماءٍ مالح، كأنني صافحتُ البحر حقًا. عندها فقط فهمتُ أن ما رأيته لم يكن رؤيا فحسب، بل رسالة. قمتُ لأتهيأ لدرس الثانية بعد الظهر، وأنا أسمع في داخلي ذلك الهمس يعود من جديد: «عما قريب ستصبح أغنى من خالك» — فابتسمتُ، وعدتُ إلى جامعتي المطلة على البحر.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button