الذكاء الاصطناعي أداة فعّالة لتدبير الوقت

بقلم: د. مهدي عامري- أستاذ و خبير الذكاء الاصطناعي، المعهد العالي للإعلام والاتصال. الرباط
أيها القارئ الكريم، إذا تأملت قليلًا ما يحدث اليوم في العالم، ستدرك أن الوقت لم يعد يُدار بالطريقة ذاتها التي اعتدناها. لقد أصبحت السرعة هي قانون الوجود الجديد، وأصبح التأخر في مواكبة التطور لا يعني فقط “فقدان الفرص”، بل يعني بكل بساطة الخروج من التاريخ. الذكاء الاصطناعي ليس رفاهًا، ولا تقنية إضافية يمكن تجاهلها، بل هو تحوّل عميق يمسّ مفهومنا للوقت ذاته: كيف نستثمره؟ كيف نعيد توزيعه؟ وكيف نحرّر الإنسان من الأعمال التي لا تضيف إلى وعيه شيئًا؟
هل تعلم أن المغرب يحتل المرتبة 14 من بين 16 دولة عربية في مؤشر أداء الذكاء الاصطناعي لسنة 2024؟ لحسن الحظ أن هذا الرقم، ربما الصادم، لا يعني أن المغرب متأخر بقدر ما يعني أن أمامه مجالًا واسعًا للقفز. نعم، هناك أمل، لكنه ليس أملًا يأتي من الخارج، ولا من “الصدف”، بل إنه يقوم على إرادة سياسية واعية، وعلى نخبة تؤمن بأن المعرفة هي الرأسمال الأول، وعلى القادة يفهمون أن الوقت ليس وحدة حسابية، بل طاقة يجب استثمارها.
الذكاء الاصطناعي هنا ليس بديلاً للعقل البشري، بل هو الأداة التي تُعيد للعقل وقته كي يفكّر. إنه ليس غولًا يهدد الوظائف كما يظن البعض، بل هو الفرصة الذهبية لتحرير الإنسان من الأعمال المتكررة، وتمكينه من الأدوار المعرفية والإبداعية. والسؤال القوي الذي يُطرح اليوم هو التالي: هل نحن مستعدّون للانتقال من عقلية الاستهلاك إلى عقلية البناء؟ هل نريد أن نكون جزءًا من صناعة المستقبل أم مجرد متفرجين نكتفي بالتعليق؟
ولكي نفهم ذلك بوضوح، لنبدأ بمثال تربوي: تخيّل أستاذًا يقضي 70% من وقته في تصحيح الأوراق، وإعداد الدروس بشكل يدوي، والبحث عن محتويات بدل إنتاجها. هذا الأستاذ، مهما كانت كفاءته، لن يستطيع أن يخلق أثرًا عميقًا في طلابه، لأنه منهك. الذكاء الاصطناعي هنا لا يقوم بدور الأستاذ، ولن يعلّم بدلًا عنه، لكنه يردّ إليه وقته، يمنحه ساعات إضافية من الصفاء كي يدرّس بوعي ويناقش ويحاور ويفكّر ويتأمّل.
إن أداة واحدة مثل ChatGPT أو Claude أو Gemini يمكنها أن تختصر ساعات التحضير والتعليم إلى دقائق. إن منصة واحدة يمكنها أن تنتج التمارين، والاختبارات، والدروس، والمقارنات، والمراجعات. هذا لا يعني أن الطالب سيتعلم وحده، ولكنه يعني أن التعليم سيعود إلى جوهره المتمثل في التفاعل الحي بين عقلين، وليس بين العقل والمطبوعات.
لقد قال ستيفن كوفي إن الوقت ليس ما نملكه، بل ما نختار أن نصير إليه. أما التصوف الإسلامي فأشار إلى أن الوقت ليس حركة خارجية بل سعة داخلية. وكيركغارد رأى أن الوقت الحقيقي هو اللحظة التي نكون فيها صادقين مع ذواتنا. وحين نُدخل الذكاء الاصطناعي في المدرسة بوعي، فإننا لا نسرّع التعلم فقط، بل نعيد المعنى إلى العملية التربوية: من الحفظ الآلي، إلى بناء الإنسان.
ولتوضيح الصورة أكثر، تأمل معي مثالًا آخر وهو ذو بُعد اقتصادي خالص: في عالم اليوم، الشركات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي في إدارة الوقت والإنتاج وخدمة العملاء، لا تنمو فقط، بل تعيد اختراع نفسها. ما الذي يجعل شركة ناشئة تضم ثلاثة أشخاص قادرة على منافسة شركات تضم مئات الموظفين؟ السر بسيط: الأتمتة الذكية.
هناك مهام يمكن للآلة أن تقوم بها بدقة أعلى وبوقت أسرع وبتكلفة أقل. وهنا يكمن جوهر المسألة: عندما يتحرر الإنسان من العمل الميكانيكي، ينفتح الباب أمام العمل الذي يحمل المعنى: التخطيط، الإبداع، رؤية المستقبل. هذا هو الاقتصاد الجديد. لا اقتصاد الريع، ولا اقتصاد التراخيص، ولا انتظار “الاستثمار الخارجي” كشخص ينتظر الطوفان في أجف صحراء في العالم.
نحن هنا نتحدث عن اقتصاد يعتمد على العقل والمعرفة وعلى تحرير الطاقة البشرية. وهذا يجعلنا بحاجة إلى الانتقال من منطق: “كم ننتج؟” إلى منطق: “كم نفهم؟ كم نبتكر؟ وماذا نضيف؟” والذكاء الاصطناعي هنا ليس بديلًا عن المهارات، بل هو الحاضنة التي تجعلها ممكنة.
إن ما يعطي القيمة للعمل ليس كثرة الساعات، بل نوعية الأفكار التي تنبثق خلاله. وحين تكون لدينا أدوات تزيد سرعة الإنجاز، وتزيد وضوح القرار، وتقلل من الضوضاء، نكون قد حررنا الاقتصاد من أثقل قيوده وهو هدر الوقت.
والآن أضع بين يديك مثالًا آخر وهو ذو بُعد سياسي محض، ولعله الأكثر حساسية وعمقًا. فالقيادة السياسية في عصر الذكاء الاصطناعي ليست قيادة شعارات، ولا خطابات عاطفية، ولا وعودًا متكررة. إنها قيادة تقوم على القدرة على قراءة الوقت. القائد اليوم لا يحتاج أن يعرف كل شيء، بل يحتاج أن يعرف كيف يسأل. يحتاج أن يمتلك القدرة على رؤية الاتجاهات الاستراتيجية قبل أن تتحول إلى وقائع.
يحتاج أن يعي أن الوقت السياسي لم يعد خطيًا، بل دائريًا: لحظة خاطئة واحدة يمكن أن تغيّر مصير دولة. والذكاء الاصطناعي هنا ليس مجرد نظام معلومات، بل هو جهاز استشعار حضاري، يتيح للقرار السياسي أن يكون مبنيًا على تحليل دقيق للبيانات الضخمة بعيدًا عن الانطباعات أو المزاج أو التأثيرات الظرفية.
إن الدول التي تتقدم اليوم ليست الأغنى بالموارد، بل الأوضح إرادة. إنها ليست الأقوى جيشًا، بل الأذكى والأدق استراتيجيًا. إنها ليست الأكثر صخبًا، بل الأكثر وعيًا بإدارة الوقت والفرص. إن إدخال الذكاء الاصطناعي في القرار السياسي يعني ببساطة الانتقال من قيادة رد الفعل، إلى قيادة صناعة الأحداث.
والآن، هل استوعبت الرسالة؟
إن الذكاء الاصطناعي لن ينقذنا إذا لم نغيّر علاقتنا بالوقت. إنه لن يرفع ترتيب المغرب المتأخر عربيًا أو إفريقيًا إذا لم نرفع سقف الوعي. إنه لن يخلق نهضة حقيقية إذا كان المراد هو العمل بنفس الأساليب القديمة.
كفى من الأوهام. الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا. إنه تغيير جذري في طريقة الوجود. والسؤال الأخير الذي أدعوك إلى التفكير فيه قبل أن ألتقي بك في القادم من الأيام هو التالي: هل سنلحق بالركب؟ بعبارة أخرى: هل نملك الشجاعة لبدء التغيير من الداخل؟.



