أخبارالرئيسيةفي الصميم

العدمية السياسية وحدود النقد في التجربة الديمقراطية

تُبرز الحياة السياسية في المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية أو ما زالت تبحث عن نموذج ديمقراطي مستقر، ظاهرة يمكن وصفها بالعدمية السياسية. هذه الظاهرة ليست مجرد تعبير عن عدم الرضا أو ممارسة نقد مشروع للسياسات العمومية، بل هي حالة ذهنية وسلوكية تقوم على نفي كل إنجاز وتشويه كل مبادرة، واحتكار ضمني لفكرة الفهم والمعرفة والقدرة على التسيير.

بقلم: زهير أصدور

أصحابها لا يرون نجاحاً إلا إذا كان منسوباً إليهم، ولا يتصورون إصلاحاً إلا إذا كانوا هم من يقوده، رغم افتقار كثير منهم إلى التجربة العملية أو الكفاءة اللازمة.العدمية السياسية تنشأ من تضافر عدة عوامل، أبرزها أزمة التمثيلية التي تجعل بعض النخب تشعر بالعزلة أو الإقصاء، فتتحول مواقع المعارضة أو الهامش بالنسبة لها إلى منصات للهجوم المستمر ونزع الشرعية عن المؤسسات.

كما يساهم غياب ثقافة التراكم في تغذية هذه الظاهرة، حيث ينظر إلى الإصلاحات والسياسات بعين استعجالية لا تعترف بالتدرج والوقت اللازم لبلورة النتائج. ويضاف إلى ذلك نزوع نرجسي يجعل بعض الفاعلين يختزلون الدولة في ذواتهم، فيتعاملون مع الشأن العام كوسيلة لتأكيد المكانة الشخصية بدل أن يكون غايته خدمة الصالح العام.وتكشف التجربة السياسية المغربية، كما غيرها من التجارب، عن هذه المفارقة بوضوح.

فكم من قيادة حزبية رفعت خطاب النقد الجذري وشككت في جدوى التوليفات الحكومية، بل ادعت قدرتها على تغيير وجه البلاد في آجال قصيرة، لكنها ما إن اقتربت من مواقع القرار حتى انقلبت مواقفها وتماهت مع منطق السلطة، بل ومارست السياسات نفسها التي كانت محل رفضها.

هذه التحولات تؤكد أن العدمية ليست تعبيراً عن موقف مبدئي ثابت، وإنما انعكاس لموقع ظرفي سرعان ما يتبدل بتبدل السياقات. غير أن خطورة العدمية السياسية تتجاوز حدود الخطاب الفردي، إذ تتحول إلى عامل إضعاف للثقة العامة. فعندما يصبح النقد نفياً مطلقاً، يفقد المواطن القدرة على التمييز بين النقد البناء والتهديم الأعمى، ويتولد انطباع بأن لا شيء ينجح وأن لا جدوى من أي إصلاح.

وبذلك يترسخ شعور جماعي بالعجز والفشل، وتزداد هوة العزوف عن المشاركة السياسية واللامبالاة تجاه الشأن العام. كما أن المجال العمومي نفسه يتضرر، حيث يُختزل النقاش في شعارات قصوى ومواقف متطرفة، بينما يغيب التحليل الرصين والتقييم الموضوعي للسياسات.

في مواجهة هذه المعضلة، يبقى المطلوب هو ترسيخ ثقافة نقد مسؤولة توازن بين الاعتراف بما تحقق وتثمينه، ولو كان محدوداً، وبين الإشارة إلى مواطن الخلل واقتراح البدائل الواقعية. النقد المسؤول ينطلق من إدراك أن الدولة أكبر من الأشخاص وأن المؤسسات أوسع من تقلبات الفاعلين، وأن التراكم التدريجي للإصلاحات هو السبيل الحقيقي لبناء الديمقراطية.

أما العدمية السياسية، فإنها لا تنتج سوى فقدان الثقة وتعطيل الإمكانات وتشويه المجال العام.إن الرهان الأساسي لا يكمن في هدم ما هو قائم، بل في إعادة بناء الثقة من خلال مؤسسات قادرة على الاستماع للنقد وتحويله إلى طاقة إصلاحية. بهذا المعنى، يصبح الفرق واضحاً بين النقد الذي يفتح أفقاً للمجتمع، والعدمية التي لا تفعل سوى إغلاقه.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button