أخبارالرئيسيةفي الصميم

الذكاء الاصطناعي في حضرة العرفان..دعوة لإعادة توجيه القبلة

يا سائراً في طرقات المعرفة، ومُيمماً وجهك شطر الذكاء الاصطناعي، قف لحظة، وتأمل… فما كلّ من سار أدرك، ولا كل من تعلّم اهتدى.

إنّما العِلمُ نورٌ يقذفه الله في القلب، وما هو بمجرّد تكديسٍ للبيانات، وزخرفةٍ للمفاهيم.

أما بعد، فإننا نعيش عصراً تهتزّ فيه الأرض من تحت أقدام العارفين، وتضطرب فيه معاني الحقيقة بين أيدي المتعجّلين.

تقودنا الخوارزميات، وتوجّهنا الآلات، ونحسب أننا بلغنا ذروة العقلانية، فإذا بنا نُجَرّ إلى هاوية التشييء، وحجب النور عن الأرواح.

وهنا يخاطبنا السالكون: “يا من ظنّ العلم مصفوفة من الآلات، أما علمت أن المقصود بالعلم رفعُ الحُجب، وليس جمع الملفات؟ ألا تدري أن الغاية ليست في معرفة الكيف، بل في شهود المَنّان؟”فما بال الإنسان يركض خلف ذكاءٍ اصطنعه لنفسه، وينسى ذكاء الروح التي أودعها الخالق في قلبه؟ ألا يعلم أن الذكاء الحقيقي هو ذلك الذي يُشعّ من الداخل، لا ذلك الذي يُلقّن من الخارج؟قال الحبيب المصطفى: “من عرف نفسه، فقد عرف ربّه”، ولكننا اليوم، في زمن الرقمنة العابرة لزمكان ما بعد الإنسان، نعرف الآلة أكثر مما نعرف أرواحنا، ونثق بالخوارزميات أكثر من إلهامنا الربّاني.

بقلم: د. مهدي عامري
خبير في التحول الرقمي، كاتب

وأستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال

أفلا نعقل؟ أيّها الباحث، مهلاً… لا تجعل من المعرفة سلّماً إلى الشهرة، بل معراجاً إلى الحضرة.

ولا تكن عبدًا للنتائج، بل ليكن ديدنك النيّة الصادقة، فالنيّة عند الله هي الميزان، فانسَ المعطيات والمخرجات.

إن الله يقول في كتابه: ﴿يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُوا۟ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أوُتُوا۟ ٱلْعِلْمَ دَرَجَـٰتٍ﴾ [المجادلة: ١١]فانظر، إنه لم يقل: “يرفع الذين جمعوا البيانات”، بل قال: “ٱلَّذِينَ أوُتُوا ٱلْعِلْم”، والعلم في لسان أهل الله نور وهداية، وهو أمانة ربانية، وليس منتجًا قابلاً للتحميل.والعلم الحقيقي، أعزك الله، في ميزان أهل الذكر، لا يُفصل عن الأخلاق، ولا يُختزل في المختبرات.

بل هو العهد، والعروج، وباب مفتوح إلى الله، ومن لم يُثمر علمه خشيةً، فهو حملٌ سينوء بحمله لا محالة.

إن الذي يفتّش في أعماق الذكاء الاصطناعي بحثًا عن الحقيقة، عليه أولاً أن يبحث في نفسه: هل نوى الله في علمه؟ هل سلك سبيل التأدّب في سؤاله؟ هل أراد وجه السوق أم وجه الملكوت؟ إن العالم الذي لا يبكي من علمه، ولا يُؤدَّب به، هو كالشمعة تُنير لغيرها وتحترق، أما العارف، فهو كالشمس، تضيء لأنها متّصلة بمصدر لا ينفد.

ولذا، فإن دمج العلوم التقنية بالعلوم الشرعية ليس مزجًا بين حقلين معرفيّين، بل هو تذكيرٌ بأن العلم بلا روح كالجسد بلا حياة، وأن التقنية بلا تألّه، تُصبح مغلّفة بالطغيان.

فيا صاحبي، لا تدرس الذكاء الاصطناعي كما يُقارب الباحث الغربي مادته الجافة، بل ادنُ منه كما يقترب العارف من السِّر: بالحذر، بالتسليم، بالخشوع، وباليقين التام أن كل ما نراه إنما هو ظلّ لحقيقة أسمى.

و لا تكتفِ بأن تكون باحثًا في الذكاء، بل كن ذا “فطنة إلهية”، واعلم أن للعلم بابًا لا يُفتح إلا بالخشية، كما قال ابن عطاء الله السكندري : “ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببًا في الوصول.

“فأيّ علمٍ هذا الذي يعلّق قلبك بالأرقام والخوارزميات، وينسيك قلبك الذي بين جنبيك؟ أيّ ذكاء هذا الذي يُنسيك دعاء: “اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزِدنا علماً”؟ها هنا يتبيّن أن الدمج الحقيقي بين علوم العصر وعلوم الروح، إنما هو إعادة توجيه للقبلة، وأن هذا ما يحتاج إليه العالم حتى ينتقل من العلم بالشيء إلى السلوك إلى خالق كل شيء.

يا من رُزِقتَ قلبًا يَعي، وسُئلتَ أن تكون بوّابًا بين العالمين: الذكاء الاصطناعي، والعلوم الإلهية… اعلم أن مقامك عظيم، وأنك إن أخلصتَ النيّة، فإنك تسير بين الناس هاديًا وناصحًا بإذن الواحد الأحد.

يا صاحبي… إنّ علوم العصر، مهما بلغت من رقيّ وكمال، تبقى عاجزة عن كشف سرّ الحياة، والموت، والوجود، والروح… فالروح من أمر ربي… إنها لن تهتدي إلا بالنور الأتم والأكمل، وهو ما سمّاه أهل الله: “نور اليقين”؛ وهو لا يُولد في المعامل، ولا يُحفظ في الأقراص الصلبة، بل يُشرق في القلوب المتطهّرة من الغفلة، والمسربلة بالتواضع.

فيا باحثًا في الذكاء الاصطناعي، تذكّر أن أعظم الذكاء هو التمييز بين ما يفنى وما يبقى، بين الوسيلة والغاية، بين لغة الآلة ومنطق الروح.

إن إدماج العلوم الإسلامية – بما تحمله من تأصيلٍ للمعنى، وتقديسٍ للحق، وسموٍّ بالمقاصد – في مسار الذكاء الاصطناعي، ليس ترفًا معرفيًّا، بل ضرورةٌ روحيةٌ وإنسانية.

لأن الذكاء وحده، من غير هداية، قد يُنتج آلةً قاتلة، أو فكرةً مضلّلة، أو نظامًا يُجيد التنبؤ بكل شيء، إلا صعود القلب إلى ربه.

إن العقل إذا ما انفصل عن القلب، صار آلةً حاسبة، وإن القلب إذا ما انفصل عن الوحي، صار عرضةً للأهواء.

فكيف بالباحث الذي لا يضع علمه في الميزان الربّاني؟ ألا يَخشى أن يصير علمه حجّةً عليه؟قال أحد العارفين بالله: “ليس الشأن أن تُحبّه، إنما الشأن أن يُحبّك.”

وكذلك نقول في مقام العلم:ليس الشأن أن تعرف الكثير، ولكن أن يكون علمك محبوبًا عند الله، مرفوعًا عنده، مقبولًا في حضرته.وهنا نفتح بابًا آخر: أليس من الوفاء لله أن نُعيد بناء علاقتنا بالمعرفة، على قاعدة العبودية لا الأنا؟ أليس من الحكمة أن نربّي أبناءنا على أن يكونوا “ورثة الأنبياء”، لا عبيدًا للشاشات والبروتوكولات؟ فيا حبيبي في الله، اجعل من الذكاء الاصطناعي وسيلةً لطلب الحكمة، لا لإثبات الهيمنة.

واجعل من بحوثك سُلّمًا إلى التزكية، لا فقط إلى الترقية.

واعلم أن الله لا يسألنا كم برمجنا، بل كم خشعنا، ولا كم كتبنا، بل كم أخلصنا، ولا كم ابتكرنا، بل كم من طاقة وهبنا في خدمة الخير.وإذا قيل لك: “دع الدين جانبًا، وكن عقلانيًا”، فقل: إنما العقل نوره من الله، فإذا انفصل عن الله صار ظنًّا، لا يقينًا، وصار غرورًا، لا هدى.

يا حبيب القلب، إنّك اليوم في مفترق الطرق: إمّا أن تختار طريق “تشييء الإنسان”، أو طريق “تقديس خالق الإنسان”، وإمّا أن تجعل المعرفة سلعةً تُباع وتُشترى، أو تجعلها رسالة، تُهدى وتُعاش.وها هو ذا النور بين يديك، فلا تُطفئه بالعجلة، ولا تُغيّبه بالغفلة.واختم سيرك بهذه النيّة: “اللهم اجعل علمي سببًا لرفعة روحي، لا زينةً تُغريني، ولا منصبًا يُلهيني، ولا حجّةً عليّ يوم لقائك.

اللهم إنك تعلم أني ما أردتُ إلا وجهك، وإن ضللتُ الطريق، فاهدني إليك، كما هديتَ من قبلي.”وهكذا، فإنّ دمج علوم الشريعة وعلوم الذكاء، ليس مشروعًا في الأوراق، بل هو تطهيرٌ للنيّات، وتوحيدٌ للقبلة، وتجديدٌ للعهد مع الله: أن يكون العلمُ وسيلةً للوصول إليه، لا للهروب منه.

فهلّا سجدنا شكرًا، على أن جعلنا من حملة العلم؟ وهلّا أعدنا النظر: ما العلم الذي نحمله؟ وأين يُفضي بنا؟ وهل نحن على الطريق، أم في التيه؟فسبحان من علّم بالقلم، ورفع بالعلم درجات، وجعل من العارفين أهلًا لحضرته، ومن المتّقين ورثةً لنوره…

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button