
..✍️ بقلم: د. مهدي عامري_أستاذ الذكاء الاصطناعي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال_ الرباط
منذ ثلاثين سنة وأنا أكتب. لم تكن الكتابة يومًا هوايةً أو حرفةً، بل كانت وطنًا أعود إليه حين يضيق بي العالم.
كنت أكتب لأنّ الكتابة وحدها لا تخون، مثلما لا تخون القصيدةُ من كتبها، ولا الأغنيةُ من لحنها أو شدا بها.
وفي خضمّ أكثر اللحظات قسوةً ووحشة، حين ينفضّ الجميع من حولك، تبقى الكلمة وفية، تمدّ لك يدها، وتهمس في أذنك: «اكتب كي لا تموت.»لقد اكتشفتُ أنّ الكتابة ليست مجرّد وسيلةٍ للتعبير، بل هي طقسُ الخلاص الخفيّ، و هي أشبه ما تكون بالصلاة أو الاعتراف الصادق.
إنّ كلّ نصّ أكتبه يشبه مرآةً أرى فيها نفسي كما لم أرها من قبل، بكلّ ضعفها وهشاشتها ونورها أيضًا. وأحيانًا أظنّ أنّي أنا من يكتب، ثم أكتشف أنّ النصّ هو الذي يكتبني، منتقيًا لغته وموسيقاه وجروحه أيضًا.ومن هنا، ربما تعلّمتُ أنّ الكاتب الحقيقي لا يملك نصَّه، بل يسكنه، ويعيش فيه كما يعيش العارفُ في حضرةِ السرّ.
فحين أنهي نصًّا، أشعر أنّ شيئًا من روحي قد غادرني ليعيش في العالم. أضع النقطة الأخيرة وأنا أتنفّس كمن خرج من مخاضٍ عسير، كأنّي وضعت طفلًا وأخرجته إلى نور العالم. إنّ لحظة ولادة النصّ أشبه بولادةٍ جسدية، لكنها ولادة بلا دمٍ ولا صراخ، بل بدموعٍ صامتةٍ لا يراها أحد.
فكلّ نصّ أكتبه هو ابني، لكنّه ابنٌ لا يمرض، لا يكبر، ولا يطالبني بشيء. يبقى هناك، ينتظر قارئًا يأتي بعدي ليوقظه من السبات.إنّ أجمل قصة حبّ عرفتها في حياتي كانت حتمًا مع نصٍّ كتبته في ليلةٍ باردة، وأنا أرتجف من الخوف والوحدة. حينذاك كانت الكتابة حضنًا آمنًا حين خانتني الحياة، وكانت نبعًا صافيًا أطفأتُ به ظمئي وعطشي الأسطوري إلى الاغتراف من ينابيع الجمال.
أنا لا أُبالغ بتاتًا: إنّ الحبّ بين الكاتب ونصّه هو حبٌّ عذريٌّ روحانيٌّ، يتجاوز الجسد، لأنّه يقوم على الفهم لا على الامتلاك، على البوح لا على اللمس. أحيانًا أكتب وأنا أبكي، لا حزنًا، بل امتنانًا لهذه اللغة التي تقبل الضعف وتحوّله إلى ينبوعٍ متدفّق، بل إلى شلّالٍ منهمرٍ من الجمال.
هنا أشعر أنّ النصّ يسمعني، ويواسيني، ويعيد ترتيب فوضاي. لماذا؟ لأنّ الحبّ بين الكاتب وكلماته ليس شغفًا عابرًا، بل هو العهد الأبديّ الذي لا تنفصم عراه.و في لحظات الكتابة، أكون كلّيًّا في النصّ، والنصّ كلّيًّا داخلي، في شراييني. إنّها علاقة جوّانية لا تشبهها أيّ علاقةٍ في الكون. لا حدود بيننا، لأنّ تلك الوحدة المطلقة التي تجمعنا هي التي تمنح الحياة معناها.
أَلَمْ يقل يومًا مارسيل بروست ما معناه: «الكتاب هو الابن الذي نضعه في العالم كي يُكمل ما لم نستطع نحن أن نكمله»؟واليوم أنا أفهم ذلك تمامًا؛ فالنصّ يذهب إلى أماكن لم أستطع أنا الوصول إليها، يلتقي أشخاصًا لم أقابلهم، ويخوض حيواتٍ لم أقدر على عيشها. إنّه امتدادي وتردّدي وحياتي الثانية وربما البديلة في المجهول. إنّه ابني الذي يواصل رحلتي حين أتوقّف أنا عن المسير.
وأحيانًا أسأل نفسي: هل يمكن أن أحبّ نصوصي أكثر من أبنائي؟ وأخشى الإجابة. لكن حين أعود إلى عين الصدق، أقول نعم، لأنّ النصّ لا يغادرني أبدًا. الأبناء سيكبرون، سيسافرون، سينسون، أمّا النصّ فسيبقى في بيتي، على طاولتي، في ذاكرتي. وكلّما فتحته، سينبض كأنّه كُتب للتوّ. أَلَمْ يكتب كافكا ذات يوم جملةً تشبه هذه: «كتبي هم أبنائي الحقيقيون، لأنهم خرجوا من رحم العزلة…»؟ وأنا أشعر بذلك تمامًا، فكلّ نصّ وُلد من عزلتي، ومن وحدتي، ومن صمتي الطويل أمام نافذةٍ تطلّ على ليلٍ لا ينتهي.
والأهم من ذلك أنّي لم أكتب لأنّي أردت أن أُدرّس أو أُبهر الآخر، بل لأنّي كنت أحتاج إلى التنفّس، إلى جرعةٍ من الهواء الطريّ، إلى قبسٍ من النور.أحبّائي، أقول: في الكتابة وجدتُ المعنى، وفي النصوص وجدتُ الأمان.
أما غابرييل غارسيا ماركيز فقد قال يومًا في لحظةٍ من لحظات الإلهام: «الكتابة لا تخلّد من نكتب عنهم، بل تخلّدنا نحن حين نكتب.» وأنا اليوم أدرك أن الكتابة هي طريقنا الوحيد نحو الخلود. ليس الخلود بمعناه الأسطوري، بل الخلود الإنساني البسيط: أن يمرّ أحدهم بعد خمسين سنة، فيقرأ جملةً كتبتها ذات ليل، فيتنهّد ويقول: “كأنّه يتحدث عنّي.”تخيّل!حين يحدث ذلك، سأدرك – ربما في عالمٍ آخر – أنّي لم أكتب عبثًا، وأنّ شيئًا منّي ما زال يعيش.
لكن هناك بعدًا آخر ظلّ يطاردني على مدار سنواتٍ من خلال الطقوس المقدّسة لصاحبة الجلالة والمهابة: جنون الكتابة. إنّه ذلك الجنون الذي يجعل الكاتب يعيش بين الوجود والعدم، وبين اشتعال الفكرة وسقوطه في الهاوية حين لا يجود قلمه بالكلم. فالكتابة ليست دائمًا خلاصًا، بل أحيانًا ما تكون لعنةً جميلة، تحرمك من النوم، ومن الهدوء، ومن القدرة على الصمت.وأحيانًا أكتب لأنّي لا أحتمل نفسي، ولأنّ الكلمات هي المنفذ الوحيد والمهرب من عتمة الداخل.
أي نعم، الكتابة نوعٌ من الجنون الطاهر الذي يغسل الروح من بؤس العالم. ولا زلت أذكر أنّ العملاق باولو كويلو قال ذات مرة في هذا الصدد: «الكتابة نوعٌ من الجنون الذي لا يُشفى منه صاحبه، لأنّها تُبقيه حيًّا في عالمٍ يموت فيه الناس كل يوم.» وعند قراءتي لهذه الكلمات، تكهربتُ وأصابني الذهول، وأدركتُ حينها أن كلّ كاتبٍ حقيقيٍّ هو مجنونٌ بشكلٍ ما، لأنّه يرى ما لا يُرى، ويسمع ما لا يُسمع، ويحوّل الوجع إلى موسيقى صامتةٍ تُداعب الروح وتمسّ شغاف القلب.
وبناءً على هذا المعطى، فإنّ الجنون في الكتابة ليس خللًا، بل هو نوعٌ من البصيرة، حيث تتجاوز العين ظاهر الأشياء لتلمس جوهرها الخفيّ. إنّه الفقدان والحنين في آنٍ واحد، وهو ما يجعل الكاتب يعيش في حالةٍ عجيبةٍ من التوازن الدقيق بين الحلم والجنون، وبين الشكّ واليقين.ثلاثون سنة من الكتابة…الحمد لك أولًا وآخرًا… اللهمّ زد وبارك.
ولعلّي في نهاية المطاف أدركتُ أنّ الكتابة ليست حرفةً ولا علمًا، بل هي جزءٌ من العبادة. نعم، إنّها تأمّلٌ وعبادةٌ قبلتها الحبّ والجمال، وهي بلا شكّ مناجاةٌ بين العاشق – الكاتب – والكلمة. و هنا استمع معي إلى ما قاله ابن عربي يومًا في لحظةٍ من لحظات الإشراق: «الوجود كلّه كتابٌ كتبه الحقّ بمداد نوره، فكلّ كاتبٍ إنما يكتب من أثر هذا المداد.»إنّ هذه العبارة لم تكن يومًا نظريةً بالنسبة إليّ، بل هي تجربة عشتها. فحين أكتب، أشعر أن قبسًا من النور يمرّ عبر قلبي إلى الورق، وأنّي مجرّد أداةٍ في يد الغيب. فأنا لا أملك النصّ، بل أستقبله كما يستقبل العارفُ الفيض.
لذلك، حين أصمت بعد الكتابة، لا أشعر أنّي انتهيت، بل أحسّ أني تطهّرت. فالجمال في الكتابة ليس في الإتقان، بل في الصدق، في ذلك الارتعاش الخفيف حين تكتب كلمةً حقيقية، ذاك الذي يسري في القلب.



