غير مصنف

ما معنى العيش المشترك في زمن الذكاء الاصطناعي ؟

بقلم : د. مهدي عامري -أستاذ الذكاء الاصطناعي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط، المغرب

أثار انتباهي في السنوات الأخيرة أنّ علاقتي بالذكاء الاصطناعي لم تبدأ عند لحظة استعماله، بل حين بدأت أستشعر حضوره المتنامي في تفاصيل حياتي اليومية من غير إعلان ولا استئذان. فقد كنت أظن أن الإنسان يستدعي الآلة حين يحتاجها، ثم اكتشفت أنها تندسّ في طبائع عيشه قبل أن ينتبه إليها.

تبدّل إيقاع الكلام، واختلف شكل الصمت، وتحوّل انتظار الرد من انتظار الانسان إلى انتظار التواصل مع الشاشات. صارت الكلمة تمرّ عبر واجهات لا حسّ لها ولا انفعال، ومع ذلك يضع الإنسان ثقته فيها كأنها تحسن إليه الإصغاء.

هنا سألت نفسي: هل كنت منذ البداية أبحث عن قلب يستمع، أم كنت أبحث عن صوت لا يعترض؟ هل كنت ألوذ بحياد الآلة لأُعفي نفسي من مواجهة هشاشتي أمام الآخر؟ إنّ من الصعب على الروح أن تميّز، في زمن الواجهات الرقمية، بين كلمة تنبثق من الحياة، وأخرى تولد من الحسابات. فالحضور البشري ليس نبرة صوت فقط، بل هو اقتراب و احتراق ونظرات تكشف ما تستره اللغة.

حسبنا أن نتأمل معنى “اللقاء” مثلا حتى نفهم أنه عناق بين القلوب و انكشاف للأرواح. ولذلك، كلما انتهت محادثة رقمية، أشعر أن شيئاً ما لم يُقل، وأن المعنى خرج مبتوراً.

فالكلمة إن لم تُعش، لم تُفهم، والإنسان إن لم يرَ نفسه في عين الآخر، لم يكتشف ذاته. ومن هنا فهمت أنّ علاقتنا بالتقنية ليست علاقة استخدام، بل هي علاقة انعكاس لما نفتقده ونخشاه معاً.

ومن المؤكد أن الحوار هو ذروة الأفعال الإنسانية، لأنه اللحظة التي يمنح فيها الإنسان من تجربته، ويتلقّى من الآخر ما يكمله. غير أنّ الحوار قد تبدّل، إذ لم يعد انتقالاً للمعنى بين قلبين، بل انتقالاً للنص بين شاشتين.

غابت حرارة الالتفات، واحتمال الارتباك، وبريق الفكرة وهي تولد. كنت أرى في قاعات الدرس كيف ينهض الفهم من شرارة مشهد أو صمت أو دهشة، ثم صارت تلك اللحظات تتلاشى أمام وجوه مسطّحة وأصوات مجتزأة.

فالرقمنة جعلت التبادل كتلة اتصال يسكنها الانفصال فذاب مع ذلك المعنى و تبخر.إن الإنسان لا يتعلّم بالعقل وحده، بل بالحسّ و العاطفة و المسكوت عنه. ولهذا قد يعيش الإنسان وسط ضجيج الكلمات وهو يشعر بوحدة لا تفسير لها؛ لأن الوحدة ليست غياب الآخرين، بل هي فقدان للصدى. و رغم ذلك، لست أدعو إلى رفض التقنية أو الهروب منها، بل إلى إعادة وضع الإنسان في المركز، فالآلة تصل، لكنها لا تصنع الألفة؛ وتيسر، لكنها لا تمنح المعنى؛ والمعنى لا يولد إلا من مشاركة الهمّ وتجربة الوجود.أمّا التحدي الأكبر، فهو في الكيفية التي نرى بها أنفسنا داخل هذا الزمن الرقمي. فالآلة لا تنافس الإنسان إلا إذا نسي الإنسان أنه كائن معنوي قبل أن يكون كائناً وظيفياً.

فإذا اختصر وجوده في الأداء والسرعة، صار شبيهاً بما صنعته يداه. و بناء على هذا فإن العيش المشترك في زمن الذكاء الاصطناعي لا يتحقق بكثرة القنوات الاتصالية، بل بإحياء روح اللقاء. و لعل هذا الأخير لا يُستعاد إلا بإبطاء الحركة وفتح المجال لما يأتي من الداخل. فمتى نعي و نفهم ما يلي : البطء ليس تأخراً، بل حماية للروح؛ والسرعة، مهما بدا بريقها، لا تورث إلا سطحيّة الفهم.. متى نفهم ذلك ؟و من المؤكد أن الطريق إلى علاقة متوازنة مع التقنية يمرّ عبر سؤال النية: لماذا أتكلم؟ ولمن أتوجه؟ وما المعنى الذي أبحث عنه؟ فإن صفت النية، صارت الكلمة جسراً، وإن فسدت، بقيت الكلمات بلا أثر.

ختاماً، إن علاقتنا بالذكاء الاصطناعي امتحان لجوهر الإنسان: فإما أن نحافظ على ذلك النور الذي يسكن القلب فنوجّه التقنية لخدمة الوعي، أو نهمله فتغدو التقنية بديلاً عن الوعي. و ما دام في أعماق الإنسان صوت يسأل، وعين تبصر، وقلب يخشع و يدرك فلن يقدر عالم الآلات على طمس ما جُعل و أفرغ فيه من نور و إشراق.اللهم إني بلغت، اللهم فاشهد..

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button