الحصانة البرلمانية بين حرية التعبير والمسؤولية القانونية.. أين تبدأ الحماية وأين تنتهي؟

تعتبر الحصانة البرلمانية إحدى الدعائم الأساسية في النظام الديمقراطي،لأنها تمكن ممثلي الأمة من ممارسة مهامهم بحريةواستقلالية دون خوف من المتابعة أو الضغط السياسي خاصة عند مناقشة قضايا الشأن العام أو مساءلة الحكومة.
لكن ومع الأسف تحولت هذه الآلية الدستورية في بعض الحالات إلى ذريعة للإفلات من المسؤولية وإلى أداة لتصفية الحسابات السياسية أو التشهير بالأشخاص والمؤسسات دون أدلة ما يثير نقاشا واسعا حول حدود الحصانة ومسؤولية استعمالها.
xجوهر الحصانة في الدستور المغربي
ينص الفصل 64 من الدستور المغربي على أن أعضاء البرلمان لا يسألون مدنيا أو جنائيا بسبب ما يصدر عنهم من آراء أو تصريحات أثناء مزاولة مهامهم وهي قاعدة تهدف إلى حماية حرية النقاش السياسي وتمكين النائب أو المستشار من التعبير بحرية عن مواقفه دون خوف. غير أن هذه الحماية ليست مطلقة إذ لا تمتد إلى القذف أو السب أو الاتهامات الخطيرة التي تمس الأشخاص أو المؤسسات دون دليل.كما أن القانون يميز بين الحصانة الموضوعية المتعلقة بالأقوال داخل الجلسات الرسمية والحصانة الإجرائية التي تمنع توقيف أو متابعة البرلماني إلا بإذن من المجلس. وبالتالي فالحصانة لا تعني اللاعقاب،بل هي آلية لضمان استقلالية التمثيل السياسي في حدود القانون والاحترام المتبادل.
حين تتحول الحصانة إلى غطاء للمزايدات
خلال السنوات الأخيرة،شهدت بعض جلسات البرلمان والجماعات الترابية انزلاقات خطيرة في الخطاب السياسي إذ تحولت منابر النقاش إلى ساحات لتبادل الاتهامات بالفساد وسوء التدبير والابتزاز السياسي في غياب أي حجج قانونية أو وثائق تثبت الادعاءات.
هذه السلوكات وإن كانت في ظاهرها تعبيرا عن الرقابة فإنها في جوهرها تضعف مصداقية المؤسسات المنتخبة وتفقد المواطن ثقته في العمل السياسي خصوصا عندما يتم استعمال الحصانة كدرع ضد المساءلة بدل أن تكون وسيلة لخدمة الشفافية والمصلحة العامة.
من الحصانة إلى المسؤولية: ضرورة التوازن
إن روح الحصانة كما أرادها المشرع هي ضمان ممارسة الرقابة دون خوف أو تضييق،لكنها لا تعفي البرلماني أو المنتخب من تحمل تبعات تصريحاته عندما تتضمن اتهامات بالفساد أو المس بالأشخاص.فالقانون المغربي يعتبر أن كل تصريح رسمي يتضمن ادعاء بوجود جريمة فساد أو اختلاس يعد تبليغا قانونيا يستوجب التحقيق وعلى صاحبه تقديم الأدلة للنيابة العامة وإلا يمكن متابعته بتهمة البلاغ الكاذب أو القذف العلني.
إصلاح الخطاب السياسي وترسيخ الثقة
إعادة الاعتبار لمفهوم الحصانة تمر عبر وضع حدود قانونية واضحة لاستعمالها وتفعيل المساءلة داخل المؤسسات المنتخبة مع تحميل الأحزاب السياسية مسؤولية تأطير منتخبيها وضبط خطابهم العام.
كما يجب أن تتحول ثقافة الحصانة من درع سياسي إلى أداة ديمقراطية تمارس بوعي ومسؤولية،في انسجام تام مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي نص عليه الدستور المغربي صراحة.
نحو ميثاق للأخلاق السياسية
ربما آن الأوان للتفكير في ميثاق وطني للسلوك السياسي داخل المؤسسات التمثيلية يحدد بدقة حدود الخطاب المقبول وآليات التعامل مع الاتهامات الموجهة للمسؤولين أو المؤسسات دون المس بحرية التعبير أو النقاش البرلماني. فالمطلوب اليوم ليس التضييق على البرلمانيين،بل إعادة الانضباط إلى الممارسة السياسية وضمان أن تظل الحصانة وسيلة لحماية الكلمة المسؤولة،لا ذريعة للتشهير أو تصفية الحسابات.
الحصانة ليست امتيازا فوق القانون بل وسيلة لخدمة الوطن بجرأة ومسؤولية. هي تضمن حرية القول لكنها لا تعفي من واجب التثبت والمصداقية. وعندما يساء استعمالها تتحول من حماية للديمقراطية إلى خطر على صورتها.
فالتحدي اليوم هو في إعادة التوازن بين الحرية والمساءلة،لأن الحصانة الحقيقية هي النزاهة والالتزام بقول الحقيقة.



