Hot eventsأخبارأخبار سريعةثقافة و فنعين العقل

التيس الذي صار “محترمًا”

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بن سيدي علي

في زمنٍ ارتفعت فيه الشعارات أكثر من العقول، وتكاثرت فيه الوجوه أكثر من الأفكار،
بات المشهد السياسي مسرحًا مفتوحًا لكل من أراد أن يجرب حظه في لعبة “التمثيل الشعبي”،
فلم يعد الكفاءة شرطًا، ولا النزاهة ميزانًا، بل صارت الأصوات تُشترى كما تُشترى البضائع في سوقٍ يعجّ بالمنادين.
ومن رحم هذا العبث، يولد “نموذج” غريب… يجمع بين الجهل والغطرسة، بين الطموح الأعمى والانتهازية الفجة.
كان بالأمس يجلس على الرصيف، يراقب المارة بعينٍ زائغة، يمدّ يده تارةً لعلّ أحدهم يجود بدرهم، وتارةً يمدّ أذنه ليلتقط كلمة مدح من رهطٍ امتهنوا بيع الوهم للناس، حتى صار من بينهم تلميذًا نجيبًا في مدرسة “التزييف الشعبي”.
كان أشعث أغبر، لا يعرف للماء سبيلاً إلا نادرًا، يلبس ما نفضه الناس من ثيابهم، ويحلم – إن حَلُم – بكسرة خبزٍ يابسة وابتسامةٍ من أحد المارة.
حين نزل من البادية لم يكن في جيبه غير سبع دراهم، وكان حافي القدمين، لكنه حمل في رأسه طموحًا أكبر من نعله المفقود.
قَامر في كل شيء: في المروءة، في الصدق، في الشرف، حتى صار وجهًا يطلّ في المجالس محتميًا بحزبٍ سياسي، يشتري الولاءات ويبيع المواقف.
ومن جاهلٍ أُمّي صار رجلًا “يمضغ الكلمات” كما لو كان يلوك فصاحة مصطنعة، يرفع حاجبيه في المجالس ليوهم الحضور بأنه من فقهاء الدبلوماسية.
وقد بلغت به الجرأة أن صرّح ذات مساء، أمام الملأ، قائلاً:
“لقد أكل عندي دبلوماسي صحن بيصارة، وما إن خرج من بيتي حتى اعترف بمغربية الصحراء!”
وما درى المسكين أن لسانه كاد يورّط بلده في أزمةٍ دبلوماسية مع دولة السفير، وأن “صحن البيصارة” الذي تباهى به، كان أخطر من كلّ قرارات مجلس الأمن!
لكن هكذا هم بعض “الواصلين حديثًا إلى القمة”…
يتوهمون أن الكلام سياسة، وأن الصراخ بطولة، وأن الكذب “ذكاء انتخابي”.
ومن حفاة البادية صاروا “محترمين”، ومن باعة الكلام صاروا “أوصياء على الوطن”.
وما أكثرهم في المشهد العام، يتكاثرون كما الأعشاب بعد المطر،
يتبدّلون بتبدّل الفصول، ويُتقنون فنّ الخطابة حين تشتدّ الكاميرات،
يتحدثون عن الإصلاح وهم أول من أفسده،
ويرفعون شعار الشفافية بأيادٍ ملطخة بالصفقات،
ويُقنعون الناس أن الكرسي “تكليف”، وهم لا يرونه إلا “تحليف”.
تراهم يطاردون الأضواء كما يطارد الذباب رائحة السكر،
يُخدّرون الناس بخطبٍ منفوخة كالبالونات، لا تحمل إلا هواءً سياسيًا راكدًا.
إنها مفارقة الزمن الرديء، حيث يصبح القبح وجهًا للوجاهة، والجهل شعارًا للتمثيل، وحيث يُمنح اللقب الشريف لمن لم يُحسن حمله.
هكذا تتحول بعض المجالس إلى حظائر أنيقة… تتحدث بربطات عنق وتفكر بعقل “التيس”!

في زمنٍ يُقاس فيه الشرف بعدد الأصوات لا بنقاء الضمير،
وفي مدنٍ تُصوّت للمظاهر وتغضّ الطرف عن الجوهر،
يولد “التيس السياسي” من رحم الغفلة، ويرتدي بدلة الديمقراطية،
ليعلّم الناس دروسًا في “فنّ الصراخ” بدل “فنّ الإصلاح”.
ولعلّ أكثر ما يؤلم أن من صوّت له سيعود بعد حينٍ ليصرخ من وجعه،
ولا يدري أنه هو من صنع وجعه بيده،
ففي النهاية، لا يلوم القطيعُ التيسَ إذا هو اختاره راعيًا.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button