من روائع الادب العربي: الزنبورية… وغصة عالم

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي
في تاريخ العربية حادثة صغيرة في ظاهرها، عظيمة في دلالتها، عُرفت في كتب التراث بـ الزنبورية. ليست مجرد مسألة نحوية نازع فيها سيبويه والكسائي، بل هي مرآة كاشفة لطبيعة الإنسان حين يختبره المنصب والجاه، ولطبيعة العلم حين يبتلى بالهوى، ولطبيعة الحق حين يواجه الظلم.
كان سيبويه، إمام الصناعة النحوية، صادقاً في علمه، طاهراً في قلبه، يلوذ بالبرهان ويحتمي بالدليل. دخل مجلس المناظرة وهو مسلّح بالحجة لا بالحاشية. أما الكسائي، فدخل المجلس ومعه رهط من أنصاره، لا قوّة علمية فحسب، بل قوة مجلس وسلطة مكان. كانت الغلبة يومها للدهاء لا للصفاء، وللصوت العالي لا للصوت العميق.
وانتصر الكسائي في المجلس… وخسر في ميزان التاريخ.
خرج سيبويه وفي نفسه شيء من الغصة؛ فالعالِم حين يُظلم لا يتألم لنفسه، بل يتألم للعلم الذي خانه قومه. ومع ذلك، مضى، وظل التاريخ يمسح عنه دمعة الظلم، ويمسح من الكسائي أثراً من آثار المكيدة.
حتى قيل مجازاً: «ولمّا عضّت الزنبورية الكسائي، عاد العدل إلى نصابه»، إشارة إلى فقهاء اللغة الذين أنصفوا سيبويه بعد موته، فأثبتوا صواب قوله وبطلان دعوى خصمه.
وهنا تتجلّى العِبرة:
- الظلم قد ينتصر… لكنه لا يدوم
قد يعلو صوت الباطل لحظة، لكنه صوت مجوّف كالريح، يزول بزوال العاصفة. أما صوت الحق، فينخفض أحياناً لكنه ثابت كالجذور، لا تقوى عليه ريح. - العالِم الحقّ لا يقف في صف الجموع، بل في صف الدليل
سيبويه خسر مجلساً… لكنه كسب قروناً من الخلود. والكسائي ربح مناظرة… لكنه خسر ضمير العلماء.
هذه سنة ثابتة: من طلب الغلبة على حساب الحقيقة، بقي اسمه عالقاً في الهامش. ومن طلب الحقيقة، كتبت له الصدارة ولو بعد حين. - ميزان العدل لا يقاس بعدد الأنصار، بل بصفاء الحجة
كان مجلس المناظرة مليئاً بأصحاب الكسائي، لكن كتب العلم اليوم مليئة باسم سيبويه.
فالعدد لا يمنح الحق، ولا يرفع الباطل.
لم ينتصر سيبويه بقوة الناس، بل انتصر بقوة العلم. - السياسة والعلم وجهان لامتحان واحد
ما وقع في مجلس النحو يقع في مجالس السياسة ومجالس القضاء ومجالس الفكر.
كم من باطل رُفع لأنه حظي بجوقة تصفق!
وكم من حق طُمس لأنه لم يجد حوله إلا الصمت!
لكن التاريخ – هذا القاضي الصارم الذي لا ينام – لا يترك الظلم يسرح دون حساب. - الحكمة الخالدة: الكيس من يصنع نفسه بالعدل
الإنسان العاقل ليس من يفوز بمعركة مؤقتة، بل من يبني مساراً دائم النقاء.
ليس من يغلب خصماً، بل من يغلب هواه.
ليس من يحشد الأنصار، بل من يملك ميزان العدل داخله.
فقصة الزنبورية ليست درساً في النحو، بل درساً في الحياة:
الدهاء قد يُسقط عالماً، ولكن الإنصاف هو وحده الذي يخلّد اسماً.
الظلم قد يربح زمناً، لكن الحقيقة هي التي تربح الزمن كله.
والإنسان مهما علا، يبقى محتاجاً إلى ميزان داخلي يزن به خطواته قبل أن تزنها الأقدار.
وهكذا تبقى الزنبورية رمزاً يذكّرنا بأن الحق لا يموت… لكنه ينام قليلاً، وأن العدل وإن تأخر، فإنه حين يأتي يمحو ضجيج الباطل كما تمحى الريح آثار الغبار.
وما أكثر الكسائيين المارقين في عالمنا الٱن



