
بقلم: د. يوسف الادريسي الحسني– رئيس الجمعية الفرنسية المغربية لحقوق الإنسان- باريس
سألني بعض الأصدقاء عن السبب الذي جعل نيكولا ساركوزي، بصفته محاميا مسجلا في هيئة باريس، يستمر في احتفاظه بصفته المهنية رغم ما واجهه من متابعات وإدانات قضائية في السنوات الأخيرة، وتحديدا في قضايا شغلت الرأي العام الفرنسي وأثارت جدلا واسعا. والجواب على هذا السؤال لا يقوم على تقديرات سياسية ولا على اعتبارات ظرفية، بل على أسس قانونية دقيقة تحكم النظام التأديبي للمحامين في فرنسا، وتفرض تمييزاً صارما بين ما يصدر عن القضاء الجزائي وما يصدر عن الهيئات التأديبية المهنية.
إن أول ما ينبغي إدراكه هو أن الإدانة الجنائية، حتى وإن كانت ثابتة في مرحلة من مراحل التقاضي، لا تنتج أثر الشطب تلقائيا. فالنظام القانوني الذي ينظم مهنة المحاماة قائم على مبدأ استقلال العقوبات، والذي يقضي بأن العقوبة المهنية لا تتبع العقوبة الجنائية بشكل آلي، بل تتخد فقط في وجود مساس مباشر بقيم المهنة الأساسية: الشرف، النزاهة، الكرامة المهنية، واحترام قواعد الممارسة. وهذا الفصل المؤسسي لم يأت عبثا، بل جاء لحماية مبدأ أساسي هو أن المحاماة ليست امتدادا للسلطة القضائية، بل مؤسسة مستقلة تحمي حقوق الدفاع وتضمن عدم الخضوع للضغوط العامة أو السياسية.
وما يجعل حالة ساركوزي مثالا صارخا على أهمية هذا الفصل هو أن القضايا التي أحاطت باسمه خلال السنوات الماضية كانت في معظمها قضايا سياسية أو انتخابية أو مرتبطة بممارسة السلطة، وليست قضايا تمسّ علاقته بموكليه أو بمهنته كمحام. فالنظام التأديبي يشترط وجود رابطة مباشرة بين السلوك المرتكب وبين المهنة. أما إذا كان السلوك مرتبطا بنشاط سياسي أو بموقعه السابق كرئيس للجمهورية، فإن الهيئة لا ترى في ذلك مساسا مباشرا بالصفة المهنية، ولو أدى السلوك نفسه إلى متابعة جنائية. فالعبرة هنا ليست بحجم الضجيج الإعلامي، بل بطبيعة الفعل من منظور مهني بحت.
إلى جانب ذلك، فإن أي حكم جنائي لا يمكن أن يبنى عليه إجراء تأديبي قاس مثل الشطب قبل أن يصبح الحكم نهائيا وباتا. ففي القضايا التي تتعلق بساركوزي، كانت العديد من الأحكام في مراحل استئناف أو نقض، ما يعني أن قرينة البراءة في سياقها المهني لا تزال قائمة، وأن الهيئة لا يمكنها اتخاذ قرار بالشطب على أساس وقائع لم تستنفد جميع درجات التقاضي. وهذا المبدأ يعد من أهم ضمانات المحاماة، لأنه يحميها من اتخاذ قرارات متسرعة قد تتحول إلى ظلم مهني لا يمكن إصلاحه.
وتتمتع الهيئة التأديبية كذلك بسلطة تقديرية واسعة جدا، بحيث يمكنها حتى في حالة وجود حكم نهائي أن تقرر الاكتفاء بعقوبات أقل وطأة، كالتوبيخ أو المنع الموقت من المزاولة، إذا رأت أن فعل المحامي لا يصل إلى مستوى المساس الجسيم بالثقة العامة في المهنة. والشطب في القانون المهني يعد أقسى العقوبات، لأنه يمثل إنهاءً كاملا لحياة المحامي المهنية، ولا يلجأ إليه إلا في الحالات التي يتبين فيها للهيئة أن بقاء الشخص في المهنة يضر بسمعتها وبثقة الجمهور فيها. وفي حالة ساركوزي، لم تجد الهيئة أن الوقائع محل الإدانة ترقى إلى ذلك المستوى من الخطورة المهنية.
ولا بد من التأكيد على أن تحريك الدعوى التأديبية ليس عملية تلقائية، بل يتطلب شكوى مهنية أو مبادرة من النقيب استناداً إلى اعتبارات مهنية بحتة. ومع غياب شكاوى تتعلق بممارسته المهنية، ومع اعتبار الأفعال المنسوبة إليه ذات طبيعة سياسية لا مهنية، لم يكن لدى الهيئة ما يدفعها لفتح متابعة تأديبية مستقلة عن المسار الجنائي.
وعندما ننظر إلى الأمر من زاوية أوسع، نلاحظ أن المشرع الفرنسي حرص على ضمان أن لا تتحول العقوبة المهنية إلى تكرار للعقوبة الجنائية، التزاما بمبدأ عدم ازدواج العقوبات. فإذا كان الفعل ذاته قد جرى تقييمه جنائيا، فإن العقوبة المهنية لا تفرض على الفعل نفسه إلا إذا كان يمس واجبات المحامي الجوهرية. وهذا ما يجعل هيئة المحامين في باريس تتريث دائما قبل اتخاذ قرارات قاسية، كي لا يصبح التأديب المهني مجرد صدى للعقاب الجنائي.
وبذلك يتضح أن استمرار ساركوزي في صفته المهنية لا يعكس امتيازا خاصا ولا انحيازا سياسيا، بل يعبر عن احترام دقيق للبنية القانونية التي تنظم المهنة، وعن تمسك الهيئة بدورها كضامن لاستقلال المحاماة، لا كجهاز سياسي أو إعلامي. فالمهنة لا تتأثر بضجيج وسائل الإعلام ولا تتفاعل مع الرأي العام، بل تحكمها معايير قانونية موضوعية لا تتغير بتغير الأشخاص.
إن تحليل وضع نيكولا ساركوزي يكشف أن القرار بعدم شطبه يمثل تطبيقا سليما لمبادئ القانون المهني، لا خرقاً لها. فالنظام التأديبي للمحامين في فرنسا منظومة دقيقة تعطي الأولوية لصلة الفعل بالمهنة، لحجية الحكم النهائي، ولحماية الثقة العامة دون استغلال التأديب كأداة سياسية أو انتقامية. وبالتالي، فإن عدم شطبه ليس علامة على التساهل، بل على صرامة نظام يرفض الخلط بين السياسة والمحاماة، ويصر على أن العقوبة المهنية لا تفرض إلا حين يمس الفعل جوهر المهنة ومقوماتها الأخلاقية.
وختاما أقول ، من يعرف حدود القانون يحسن السير في دروبه، ومن يخلط بين الضجيج والحق يضل عنه ولو كان قريبا منه.



