أخبارالرئيسيةتقارير وملفاتفي الصميم

قراءة نقدية في ضوء قرينة البراءة والحق الدستوري في الترشح

المادة 6 من مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25

بقلم:حاتم إيوزي_ باحث في العلوم السياسية والقانون الدستوري

منذ إقرار دستور 2011، انخرط المغرب في مسار إصلاحات دستورية وتشريعية عميقة، استهدفت أساسا إعادة تكريس دولة الحق والقانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وترسيخ حماية الحقوق والحريات الفردية والجماعية. وفي صلب هذا المسار، اكتسبت المنظومة الانتخابية مكانة متميزة باعتبارها المدخل المركزي لتجديد النخب التمثيلية وضمان التداول الديمقراطي على السلطة، مما جعل المشرع حريصا على إدماج ضوابط تخليق الحياة العامة ومحاربة الفساد الانتخابي ضمن النصوص المنظمة للعملية الانتخابية.

غير أن هذا الحرص قد ينزلق، أحيانا، نحو تغليب منطق الزجر على منطق الضمانات، وهو ما يظهر بوضوح في بعض المقتضيات الواردة في مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25 المتعلق بمجلس النواب، والتي تجعل مجرد المتابعة، أو الحكم الابتدائي غير النهائي، سببا موجبا لسقوط الأهلية الانتخابية، وللحرمان من الحق في الترشح.

وهو توجه يثير أكثر من سؤال حول مدى احترام هذا المشروع القانون التنظيمي لقرينة البراءة، وللحق الدستوري في الترشح، ولمبدأ التناسب في تقييد الحقوق الأساسية.

وفي هذا السياق، فإن المادة السادسة، في صيغتها الواردة ضمن مشروع القانون التنظيمي رقم 53.25 المغير والمتمم للقانون التنظيمي رقم 27.11، ليست مراجعة أو تعديلا عاديا في نص انتخابي، بقدرما تعبر عن تصور جديد – ومقلق – لعلاقة الدولة بالمواطن المشتبه فيه أو المتابع أو المدان، حيث تشكل تراجعا واضحا عن المسار الحقوقي والدستوري الذي انطلق مع دستور 2011. فاختيار حرمان أشخاص من حق الترشح لمجرد وجودهم في وضعية متابعة، أو بناءً على أحكام ابتدائية لم تكتسب بعد قوة الشيء المقضي به، يعني في الواقع وضع المتهم في نفس خانة المحكوم نهائيا، وتحويل الشبهة أو الحكم غير البات إلى عقوبة سياسية تنتزع حقوقا دستورية أساسية، قبل أن يقول القضاء كلمته الأخيرة.

وهذا مس مباشر بمبدأ قرينة البراءة كما كرسته المواثيق الدولية والوثيقة الدستورية باعتباره إحدى ركائز دولة الحق والقانون.إن دستور المملكة، في الفقرة الرابعة من الفصل 23، ينص بكل وضوح أن قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان، وأن الأصل في كل شخص أنه بريء إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي نهائي.

ويأتي كذلك الفصل 119 من الدستور ليؤكد هذا المبدأ، عندما يربط زوال قرينة البراءة بالحكم المكتسب لقوة الشيء المقضي به.

كما أن المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية تعيد صياغة نفس القاعدة حيث أن كل متهم أو مشتبه فيه يعتبر بريئا إلى أن تثبت إدانته بحكم نهائي صادِر في إطار محاكمة عادلة.

أمام كل هذا وذاك، تظهر المادة 6 كأنها تخلق منطقة رمادية بين البراءة والإدانة، إذ تعامل من اختاروا الترشح للانتخابات معاملة المدانين نهائيا، من خلال حرمانهم من أحد أهم الحقوق السياسية التي يكرسها الفصل 30، وهو الحق في الترشح.الأمر هنا لا يتوقف عند قرينة البراءة فقط، بل يمتد إلى مبدأين آخرين لا يقلان جسامة، الأول، يرتبط بمبدأ التناسب – تناسب الجزاء مع الغاية المعلنة – كما استقر عليه الفقه الدستوري المقارن، حيث يقتضي أن تكون الوسيلة المختارة لتحقيق غاية مشروعة أقل الوسائل تقييدا للحق، وأن تبنى القيود على أسس موضوعية واضحة، لا على مجرد شبهة أو إجراء مسطري مؤقت.

والثاني، يتعلق بمبدأ المساواة وعدم التمييز في التمتع بالحقوق السياسية، فالفصل 30 من الدستور يضمن لكل مواطن ومواطنة، متى بلغ سن الرشد القانونية – المحدد في 18 سنة كما جاء في مشروع القانون -، الحق في التصويت والحق في الترشح.

ومن هذا المنطلق، حين يجعل المشرع من مجرد المتابعة، أو من حكم ابتدائي قابل للإلغاء أو التعديل استئنافيا أو نقضا سببا كافيا لحرمان هؤلاء من الترشح لولايتين أو أكثر، فإنه ينقل القيود من خانة الاستثناء إلى خانة القاعدة، ويجعل الأصل هو المنع والحرمان، والحق استثناء، على خلاف ما أجمع عليه الفقه واستقر عليه الاجتهاد الدستوري من أن أي تقييد لحق أساسي يجب أن يظل محصورا في حالات استثنائية، ومبررا، ومتناسبا مع الغاية المشروعة المراد تحقيقها.

ويترتب عن كل ذلك أن المادة 6 من مشروع القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب، في صيغتها الحالية، تدرج في دائرة عدم الأهلية الانتخابية أشخاصا قد تنتهي متابعاتهم بالبراءة أو بحفظ الملف، أو قد تخفف إدانتهم أو يغير وصف الأفعال المنسوبة إليهم في مرحلتي الاستئناف أو النقض، بما يسقط عنهم الوصف الجرمي أو يقلص من خطورته – كما هو واقع ومعلوم -، بينما تكون “العقوبة الانتخابية” قد استنفدت مفعولها بمنعهم من خوض استحقاق أو استحقاقين.

نحن إذن أمام عقوبة سياسية سابقة لأوانها، شبه نهائية من الناحية الواقعية والعملية، تتعارض مع فلسفة العدالة الجنائية الحديثة التي تجعل من العقوبة وسيلة للإدماج وإعادة البناء، لا آلية للوصم والإقصاء السياسي الدائم.إلى جانب ذلك، فإننا نعتبر أن التوسع الآلي في فئات غير المؤهلين للترشح، دون تمييز دقيق بين طبيعة الأفعال وخطورتها، ودون منح القضاء سلطة تقديرية لتفريد الحرمان من الأهلية وفقا لظروف كل حالة، يتصادم مع مبدأ تفريد العقاب، ومع روح المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، والتي تشدد على أن أي قيود على الحقوق السياسية يجب أن تكون مبررة وضرورية في مجتمع ديمقراطي.

وفي نفس السياق، فإن القضاء الدستوري نفسه، قبل وبعد دستور 2011، كرس بوضوح مبدأ قرينة البراءة في المجال الانتخابي. فقد اعتبر المجلس الدستوري في قراره رقم 780/2009 بتاريخ 18 يوليوز 2009 أن “الحكم الجنحي الذي يترتب عنه فقدان الأهلية للانتخاب» يجب أن يكون حكما نهائيا صادرا قبل أن يبت في الطعن الانتخابي، “وحيث إنه لئن كانت الأهلية من النظام العام، وتعد شرطا جوهريا للترشح للانتخابات والاستمرار في تمثيل الأمة، ويفضي فقدانها في أي مرحلة من المراحل حتما إلى المنع من الترشح أو بطلان الانتخاب، فإن إعمال مبدأ قرينة البراءة الذي هو مبدأ ذو قيمة دستورية، يوجب أن يكون الحكم الجنحي الذي يترتب عنه فقدان الأهلية للانتخاب حكما نهائيا صادرا قبل أن يبت المجلس الدستوري في الطعن الانتخابي المعروض عليه؛” مما يعني أن مجرد المتابعة أو الحكم غير البات لا يكفي قانونا لترتيب فقدان الأهلية.

كما ذهبت المحكمة الدستورية إلى تكريس نفس المبدأ في قرارها الصادر بتاريخ 5 يونيو 2018، “وحيث إنه، خلافا لما جاء في الادعاء، فإن الطاعن لم يدل بما يفيد كون المطعون في انتخابه متابعا من طرف الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس من أجل ارتكابه جرائم النصب والاحتيال، وإنه على فرض صحة ما نعي، فإن المطعون في انتخابه يتمتع بقرينة البراءة ما دام لم يصدر في حقه حكم نهائي حائز لقوة الشيء المقضي به؛ وحيث إنه، تأسيسا على ما سبق بيانه، تكون المآخذ المتعلقة بأهلية المطعون في انتخابه للترشح، غير مرتكزة على أساس من القانون؛ “وهو تعبير صريح عن أن الشخص المتابع أو المحكوم ابتدائيا يظل متمتعا بحقوقه السياسية كاملة إلى أن يصدر في حقه حكم نهائي.

ثم جاء قرار المحكمة الدستورية رقم 995/16 بتاريخ 27 أبريل 2016 المتعلق بالتجريد بسبب انعدام الأهلية ليؤكد أن مانع الأهلية الانتخابية يرتبط بحكم قضائي نهائي، وأن دور قرار التجريد هو مجرد تثبيت لهذه الحالة القانونية وليس إنشاء لعقوبة جديدة.

هذا المسار الاجتهادي المستقر يجعل من المادة 6، في شقها الذي يوسع دائرة الحرمان من الأهلية بناءً على المتابعة أو الأحكام غير النهائية، نصاً يصطدم بشكل مباشر مع فلسفة وقرارات القضاء الدستوري ذاته، فهي تحول الشبهة إلى إدانة، والمتابعة إلى عقوبة انتخابية، وتغير طبيعة دور القضاء الدستوري في التجريد من الصفة التمثيلية من دور كاشف إلى دور منشئ لعقوبة مبنية على مساطر لم تستكمل بعد كل درجاتها.

وتزداد خطورة التعارض عندما نستحضر التزامات المغرب الدولية. فالدستور ألزم الدولة باحترام اتفاقيات حقوق الإنسان والعمل على ملاءمة التشريع الوطني معها. والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي صادق عليه المغرب، يقر من جهة بقرينة البراءة، ومن جهة أخرى بحق كل مواطن في المشاركة في الشأن العام والترشح للانتخابات، ولا يجيز تقييد هذا الحق إلا بقيود معقولة وغير تعسفية. والتفسير الذي استقر عليه الفقه والهيئات الأممية يؤكد أن الحرمان من الحقوق السياسية لا ينبغي أن يتحول إلى عقوبة تلقائية قائمة على مجرد الشبهة أو الاتهام، لأن ذلك يفرغ قرينة البراءة من مضمونها، ويجعل من الإجراءات المؤقتة في المسطرة الجنائية أداة لإقصاء الخصوم من ساحة التنافس الديمقراطي.في ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن المادة 6، في صيغتها المقترحة، لا تتوقف عند محاربة الفساد الانتخابي أو تخليق الحياة العامة – كما تم الدفع بذلك عند تقديم مشروع القانون بمجلس النواب -، بل تنزلق إلى الخلط بين حماية نزاهة العملية الانتخابية وبين المساس بجوهر قرينة البراءة والحق في الترشح. فهي تنقل جزءا من الصراع السياسي إلى مجال الدعوى العمومية، وتمنح مجرد المتابعة أو الحكم غير النهائي أثرا سياسيا بالغ الخطورة يتمثل في إقصاء المعنيين من ساحة المنافسة الانتخابية.

إن تخليق الحياة السياسية هدف مشروع وضروري، لكن الوسائل المعتمدة لتحقيقه يجب أن تظل منسجمة مع الدستور ومع التزامات المغرب الدولية، وأن تبنى على أحكام قضائية نهائية، وعلى جزاءات انتخابية دقيقة، متدرجة، وقابلة للمراجعة، لا على شبهة أو متابعة أو أحكام ابتدائية قد تلغى أو تعدل في درجات التقاضي اللاحقة.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button