أخبارالرئيسيةثقافة و فن

عن حصاد السنين..نباح جرمان وذاكرة البياض

بقلم: د. محمد واحمان(إعلامي)

ذات ليلة باردة مُثلِجة همدت الأصوات… وسكن كل شيء في جبال الأطلس الكبير الأوسط، حتى بدا الجبل نفسه كأنه يتنفّس على مهل تحت عباءةٍ بيضاء من ثلج. لكن قبل أن يُرخي الليل سدوله على قريتنا الصغيرة الجميلة، قرية اسكاط، كانت للحياة طقوسها الدافئة التي تسبق العتمة.

كان أبي، رحمه الله، يعيد الأنعام من الغابة المجاورة بعد ساعات في المرعى. نراه من بعيد يسيربخطوات هادئة، تتبعه الأغنام في صف غير منتظم، يلوّح بعصاه في الهواء بين حين وآخر، ويحدو لها بصوت خافت تعرفه، ولما يدخلها إلى الحظيرة، نسمع ثغاء الخرفان يملأ الفضاء، إنه صوت كان يُطرب قلوبنا الصغيرة، فيما كان وقعُ أظلافها على الأرض المبلّلة يُؤنسنا ويُعلن أن انصرام المساء وقدوم ليلة ليلاء.

كنا نكون قد عدنا لتونا من المدرسة، نخلع محافظنا في فناء البيت، ونجلس قرب الموقد نُدفّئ أيدينا المرتجفة من برد الطريق، مننتظرين ذلك المساء الجميل.

وحين يبدأ الليل زحفه البطيء، وتشتدّ الرياح نسبيا، همدت الأصوات… وسكن كل شيء من جديد. فلم يكن يُسمع سوى عويل الرياح وتأوّهها وهي تضرب جدران البيوت الحجرية، وكأنها أرواح قديمة تبحث عن دفءٍ ضائع.

في بيتنا الكائن على أطراف وادي برنات الجميل، كان الجميع ملتفا حول المدفأة الطينية. اشتعل الحطب فارتفعت ألسنة اللهب، ترقص ظلالها على الجدران. جلست إما – تارة وأبي تارة أخرى – يقصّان علينا حكايات الحيوانات: عن الثعلب الماكر، وعن الذئب/ الأشن والقنفذ، والأسد والبقرة، وموش إغنان(الهر الثري)، وقصة تاكروط(الغولة) وهلم جرا من روائع القصص الحيوانية… وكانت عيوننا تتّسع دهشة، ووجوهنا تلمع بنور النار والخيال، إذ ذاك، فاحت رائحة خبز “الأرخصيص” الساخن، ووُضعت فوق المائدة البسيطة أطباق الجزر واللفت المحفور الدافئ، ودارت كؤوس الشاي المليئة بالبخار بين الأيادي التي كانت ترتجف من السميقلي…

وكان أخي إبراهيم يضع على ركبتيه مذياعا من طراز “صانيو”، يُقرّب أذنه منه بشغفٍ كبير، وهو يتنقّل بين موجات البي بي سي BBC تارة، وصوت أمريكا، أو DW، إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية، والإذاعة الوطنية تارة أخرى.

كان صوت المذيع( رشاد رمضان، حسام شوبلاق، هدى الرشيد، نور الدين زرقي، عبد الرحيم فقراء، محمد العلمي، بنعيسى الفاسي، محمد منير سراج، مروان الشورفاجي، أحمد عكا، زهور لمزاري، فؤاد الحناوي، إقبال إلهامي، توفيق الدباب…) كان يخرج مشوبا بخشخشة خفيفة، كأنه آتٍ من قلب الغيم لا من سلك نحاسي.

كنا نجلس صامتين، كعصافير احتمت بعشّ دافئ، بينما كان أبي، رحمة الله عليه، ينتظر النشرة الجوية بترقّب خاص؛ لا حبا في الأخبار، بل لأن الغيم في تلك الجبال لم يكن مجرد طقس… بل كان مصيرا…ينصت جيدا، يقطّب حاجبيه قليلا، ثم يرفع عينيه نحو السقف، كأنه يحاول أن يرى السماء من خلال سقف المنزل… وفجأة… يُسمع نباح الكلب “جرمان” من على سطح المنزل.

انتبه الجميع. ساد صمتٌ خفيف، ثم قال أبي بصوت مطمئن:– لا تخافوا… الكلب الوفي جرمان لا ينبح إلا إذا شعر بشيءٍ غريب.

اشتدّت الريح، وراحت الثلوج تضرب الأبواب والنوافذ بقسوة، حتى غلبنا النعاس على وقع الحكايات وصوت النار.

وفي الصباح، وجدنا القرية قد أصبحت بيضاء، كأنما لمستها يدُ جانٍ . وكانت الأسطح مغطّاة بالثلج، والممرّات مطموسة، والهواء نقيًّا كأنه وُلد لتوّه.أما الأشجار، فقد انحنت تحت ثقل البياض، كعجوزٍ شمطاء تسجد لربّها، تسأله أن يغفر لها ما قدّمت، وأن يُنقذها من عوادي الزمان.

خرجنا حفاة الأحلام إلى العتبة، نضحك دون سبب، ونرسم بأنفاسنا غيوما صغيرة في الهواء البارد. وكان جرمان يقف على السطح، صامتا هذه المرة، كأنه هو كذلك مندهش من جمال القرية وهي ترتدي ثوبها الأبيض الأخاذ.

وفي تلك الصباحات… كنا نفهم أن البرد قد يكون نعمة، وأن الثلج حكاية أخرى، وأن الذكريات لا تموت.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تفقد أيضا
Close
Back to top button