موريتانيا بين حياد الأمس وتعقيدات اليوم.. نحو عقيدة دبلوماسية تُدير المخاطر لا تُجاملها

في لحظة إقليمية مضطربة، لا يبدو أن دعوة نواكشوط إلى صياغة عقيدة دبلوماسية جديدة مجرد تمرين إداري أو ترف فكري. نحن أمام اعتراف ضمني بأن القواعد القديمة للعبة لم تعد صالحة، وأن سياسة “تجنب العواصف” لم تعد كافية في محيط تتكاثر فيه العواصف وتتشابك مساراتها.
المحيط الإقليمي للجمهورية الإسلامية الموريتانية يشهد تحولات عميقة: انهيار أطر التعاون في الساحل، صعود الحكم العسكري، تراجع المنظمات الإقليمية، مقابل احتدام التنافس الدولي على الموانئ والطاقة والمعادن. في هذا السياق، يصبح تحديث العقيدة الدبلوماسية فعلا سياديا بامتياز، لا يقل أهمية عن إصلاح المنظومات الأمنية أو الاقتصادية.
مراسلة وزير الخارجية محمد سالم ولد مرزوك إلى الدبلوماسيين الموريتانيين تكشف وعيا رسميا بأن السياسة الخارجية لم تعد شأنا محصورا في دوائر ضيقة، بل رؤية جامعة تستدعي إشراك الكفاءات، وتوحيد البوصلة، وضبط السلوك الدبلوماسي وفق مصالح واضحة لا وفق ردود أفعال ظرفية. إنها محاولة للانتقال من دبلوماسية “إطفاء الحرائق” إلى دبلوماسية “إدارة المخاطر واستثمار الفرص”.
في هذا الإطار، يبرز مفهوم “الحياد الإيجابي” كأحد ثوابت السياسة الخارجية الموريتانية، خصوصا في ملف الصحراء المغربية. غير أن السؤال الجوهري اليوم ليس: هل ستغير موريتانيا موقفها؟ بل: كيف ستُعيد تعريف هذا الحياد في سياق دولي لم يعد يتسامح مع الغموض الطويل؟
القراءة الواقعية، كما يذهب إلى ذلك عدد من المهتمين بالشأن الإقليمي، تشير إلى أن نواكشوط ستستمر في موقعها كدولة توازن، لا تنخرط في محاور مغلقة ولا تتحول إلى طرف صدامي. فالملف الصحراوي بالنسبة لموريتانيا ليس قضية خارجية عادية، بل معطى بنيوي يمس أمنها القومي واستقرارها الداخلي وعلاقاتها الإقليمية. لذلك ظل يُدار تاريخيا بمنطق التحكم في التداعيات، لا بمنطق الحسم أو المغامرة.
لكن الجديد اليوم هو أن المرجعية الدولية باتت أوضح. قرار مجلس الأمن الأخير، الذي يكرس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل واقعي وذي مصداقية، يفرض على الجميع، بمن فيهم موريتانيا، قدرا أكبر من الوضوح. الحياد لم يعد يعني الصمت، بل دعم المسار الأممي دون لبس، مع حماية المصالح الوطنية وتفادي الانزلاق إلى أدوار تفوق القدرة.
في العمق، تبدو العقيدة الدبلوماسية الموريتانية المقبلة محكومة بمنطق الوقاية والاستباق أكثر من منطق المبادرة الصاخبة. فدولة تقع عند تقاطع المغرب الكبير وإفريقيا جنوب الصحراء، وتجاور فضاءات هشة أمنيا، لا تملك رفاهية المغامرة، لكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الاكتفاء بالمراقبة من بعيد.
نجاح هذا التحول الدبلوماسي سيظل رهينا بعامل حاسم: الانسجام الداخلي. فسياسة خارجية فعالة لا تُبنى فقط في السفارات وقاعات المؤتمرات، بل تنطلق من دولة قادرة على معالجة اختلالاتها الاقتصادية والاجتماعية، وجعل الدبلوماسية أداة لخدمة التنمية لا مجرد واجهة توازنات.
باختصار، موريتانيا اليوم أمام فرصة نادرة: أن تحوّل حيادها من موقف دفاعي إلى خيار استراتيجي ذكي، وأن تجعل من عقيدتها الدبلوماسية بوصلة واضحة في عالم يتغير بسرعة، دون أن تفقد دورها كدولة اعتدال، ولا تُستدرج إلى صراعات جانبية لا رابح فيها.



