أخبارالرئيسيةفي الصميم

عودة الروح في عالم البيانات

بقلم: د. مهدي عامري
خبير الذكاء الاصطناعي، كاتب
و استاذ باحث بالمعهد العالي للاعلام و الاتصال

تغيّر وجه الإنسان حين غاب صوت الروح، وأصبحت الخوارزميات مرآته الجديدة؛ التي لا تعكس النور، بل تُلقيه في غياهب الظلمات. لم يعد الإنسان المعاصر يُبصر من باطنه، بل من شاشةٍ تُلقّنه ما يظنّه حقيقة، وهو في الواقع بعيدٌ عن ذاته، غريبٌ عن سرّه، محرومٌ من معراجه. فالخوارزميات، وإن بدت أدوات معرفة، فإنها تُفرغ الإدراك من جوهره، وتُصيب العقل بلعنة الكسل الذهني، وتفصل القلب عن حنينه الأزلي. قال أحد العارفين بالله: “إذا كنتَ تبحث عن الله بعيدًا، فلن تراه. الله في قلبك وجوانيتك. إنه تعالى معك أينما كنت.”قول بليغ.. أليس كذلك؟لكننا اليوم، للأسف، نغرّد خارج السرب، ونبحث في الخارج، في أدوات لا روح لها، وبمؤشرات تُبدّد الحضور، وتُشتّت النداء الباطني.هذا هو عين الضلال…لقد صار الإنسان في زمن الخوارزميات يتابع التفاعل لا التجلي، ويستبدل الذكر بالإشعار، والصمت بالضجيج، والأنين العاشق بالنقرات. وهكذا، كلّما ازدادت سيطرة التقنية، قلّ سكون القلب، وكلما هيمنت الخوارزميات، خفَت فينا النداء والارتقاء.إننا نعيش إذًا غُربة الروح في عالم وفرة البيانات وهيمنة الخوارزميات، حيث صار الذكاء الاصطناعي معيار العقل عوض النور، وأصبح الحضور الرقمي أثمن من معية الله. فها هي ذي الروبوتات تقيسنا بالأرقام، وتُصنّفنا بالخوارزميات دون أن تدلّنا على أنفسنا، أو تُظهر لنا عيوبنا. أما أهل الله فيقولون في كل زمان ومكان: “من عرف نفسه فقد عرف ربّه، فإن كان بينك وبينه حجاب، فهو أنت”.. لقد انحرفنا إذًا عن الطريق، واستبدلنا مجاهدة النفس بمحاكاة السلوك، وذوق الباطن بالجري خلف القشور والمظاهر. وإن كان الذكر يُجلي الصدأ عن غلاف القلب، فإن التطبيقات الذكية تُحاكي ولا تتذوق، وتُردّد ولا تشهد، وتدور ولا تسجد. وهكذا، فإن الروح، وهي المعراج الأول إلى ربّ العالمين، أُقصيت من ساحة المعرفة، واستُبدلت بـ”البيانات” التي تُغري المستهلك بالسهولة وتقتل التدرّج في سلالم العرفان، وتمنح الإجابة تلو الإجابة دون تعب أو مجهود، في حين أن الحقيقة لا تُمنح إلا لمَن ذاق، ومن ذاق لا يعود كما كان.. لأن النور لا يُطلب بكثرة الكلام، بل بالسير الحثيث في ظلمة النفس حتى تصير المرآة العاكسة لوجه الحي الذي لا يموت.ختامًا، إن واجبنا اليوم هو إعادة الروح إلى مركز المعرفة، لا بصفتها مجازًا، بل باعتبارها الأصل والغاية، فهي التي تُبقي ابن آدم إنسانًا، وتمنحه الوعي بالحقيقة والنزوع إلى المطلق.وبالتالي، لا فناء في الروبوتات، الفناء في الله، ولا بقاء في المنصّات، البقاء بالله. وإنّنا لمطالبون بأن نقطع حبل التبعية للخوارزميات، ونعود إلى سرّنا الأول، أي إلى ذوق تعجز عن سَبره ووصفه الكلمات، وإلى سلوك لا يرسمه الذكاء الاصطناعي. فمن ذاق عرف، ومن عرف ذاب، ومن ذاب وصل.. وما أحوجنا إلى هذا الذوبان الذي لا يُنتج استهلاكًا، بل يُنتج وعيًا خالصًا لا يدفع بنا إلى الأسواق، بل يرفعنا إلى حضرته البهية. لقد حان الوقت إذًا لنكفّ عن قراءة أنفسنا في المرايا الزائفة، وأن نعيد ترتيب طقوس العبور وسلوك الطريق..فمن مصاحبة الخوارزميات ليل نهار، يجب أن ننتقل إلى الحضور مع الله، ومن التحليل الآلي البارد، يجب أن ننتقل إلى الإكثار من الأذكار، ومن الاستهلاك المفرط للمحتوى، يجب أن نشهد احتراق الروح في نور الحق.ولعلّ هذا وحده، هو التحرر الحقيقي للروح من أسر وسجن الآلات، وعودتها راضية مرضية إلى حضرة الواحد الأحد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button