أخبارالرئيسيةثقافة و فن

حين يحبّ ذو اليقين.. ولا تعود يقين

بقلم: ذو اليقين

في زحام الحياة، وفي لحظة عابرة لا تشبه ما قبلها، التقيا… لم يكن لقاءً بالمعنى التقليدي، بل تقاطعًا خافتًا بين روحين، لا تعرفان بعد أنهما ستسكنان نفس الغيمة، ولو للحظة واحدة فقط.

“ذو اليقين”، لم يكن رجلًا عاديًا…كان محاربًا في ساحات الكلمات، صوفيًا في حضرة الحرف، يكتب كأنه يتوضأ قبل كل رسالة، وينتظر الرد كمن ينتظر الآذان في آخر لحظة من صبره.

وحين لمح يقين لأول مرة، لم يرَ فيها وجهًا، بل رأى سؤالًا… سؤالًا سيقضي عليه العمر وهو يحاول إجابته.

كانت “يقين” جميلة بما يكفي لتربك حديثه، وبسيطة بما يكفي لتجعله يكتب لها وكأنه يكتب إلى نفسه.

ردّت على أولى رسائله بذوق وهدوء، لا تبالغ في الحذر، ولا تلوّح بالوعد…ففهم أنها فتحت النافذة، دون أن تدعوه للدخول.

وكان يكفيه ذلك ليبدأ الكتابة.

كتب لها صباحًا ومساءً،بعث إليها كلمات مشذبة كحديقة،ومرّر لها مشاعره ملفوفة بورق ورد،لم يكن يطلب مقابلًا، بل فقط مساحة من يقين… ليسكنها، أو يسكن قربها.

وكانت تقرأ. تبتسم، تشكره، ترسل كلمات ناعمة لا تصدّ ولا تقرّ.

وكان يرى في كل ردّ منها وعدًا صغيرًا…وكانت، ربما، لا ترى شيئًا سوى أدب رجلٍ يحبها دون أن يضغط.

مرت الأيام، وكبرت المسافة بين رغبته وحقيقتها.

صار يكتب بحرارة، وتردّ ببرود لبق.صار يقترب، وهي تبقى حيث هي… بعيدة بما يكفي لئلا تخونه، وقريبة بما يكفي لئلا ينساها.

وذات يوم، التقت عيناهما في عشاءٍ لم يكن مقررًا،جلسا، تحادثا، ضحكا…ورأى فيها كل الحلم مجسدًا،وسمِع من صوتها كل ما لم يُكتب بعد.

عاد إلى بيته كمن صلى خلف إمام قبله… دون أن يعلم هل قُبلت صلاته. بعد العشاء، كتب لها أكثر،بعث إليها مشاعر لا يمكن وزنها بالحروف،أحبّها كما لو أنها آية أُنزلت له وحده،لكنها… ظلت صامتة،تقرأ، تبتسم، ثم تغيب.

وذات مساء، أرسلت له تقول:“كلماتك تسكنني… سأطبعها وأضعها بين كتبي، فهي من الأشياء التي لا تُنسى.”يا له من جواب! كأنه اعتراف ناقص،أو خذلان مُغلّف بالامتنان.

لكنه لم يتوقف.لم يكن ينتظر وعودًا، كان يكفيه أن يحب…أن يكتب لها، ويشعر بأنها هناك، تقرأه، تفكر فيه لحظة، ثم تعود إلى عالمها.لكن حتى تلك اللحظة صارت نادرة.صارت رسائله تصطدم بجدار الصمت، وصار اسمها خافتًا في إشعارات هاتفه. وصار هو، رغم كل يقينه، رجلًا يتقن الانتظار أكثر مما يحتمل.

كتب لها آخر مرة، وقال:“يقين… لا أطلبك حبًا، أطلبك أثرًا.دعيني أكون الرجل الذي مرّ بكِ ذات نص،وترك فيكِ ظلًّا، حتى إن رحلتِ، لا يزول.”ثم توقف.لا لأنه لم يعُد يحب،بل لأنه تعلّم أن الحب ليس عنادًا، وأن الكرامة ليست نقيض الحب، بل رفيقته حين يغيب التقدير.

يقين لم تعتذر.لم تودّع.ولم توضح.وهو…لم يندم.ولا سبّ، ولا لام.بل شكرها سرًا،لأنها كانت الحلم الذي أخرج أجمل ما فيه.ومع الوقت، تغير شيء ما في قلب ذو اليقين.

لم يعُد يكتب من أجل أن يُجاب، بل صار يكتب لأنه بات يرى في يقين أكثر من امرأة؛ صارت رمزًا للصدق، مرآةً للودّ الخالص، وسكنًا لروحه التائهة في دروب الشغف النبيل.

حين قالت له ذات مساء:“دع علاقتنا تبقى عادية… صافية، صادقة، بلا تعقيد.”لم ينكسر.على العكس، شعر أن هذه الصيغة الجديدة تحمل أمانًا لم يعرفه من قبل، وصدقًا يعادل في روعته أجمل اعتراف.

قال في نفسه:“إذا كانت يقين، فلا بأس أن أحبها من حيث هي… وأن أراها من حيث لا تراني.”ومنذ ذلك الحين، ازدهر. بات يكتب لها أكثر، لا ليربح قلبها، بل ليحيا بقلبه قربها.كل ردّ منها، حتى لو كان مقتضبًا، أصبح عنده قصيدة.وكل لحظة صمت، بات يفسرها على أنها ارتباك محبّ، لا تجاهل غريب.

وذات صباح، شبّهها ببلقيس نزار،وقال لها:“كل النساء كلمات… إلا أنتِ، فأنشودة تُغنّى دون توقف. ”ضحكت، فشعر أن الحياة بكاملها تبتسم له.

وراح يكتب كأنه شاعر فُتح له باب الغيب، لا يجف حبره، ولا يذبل نبضه.واليوم، لا يعرف أحد كيف ستنتهي الحكاية،هل سيأتي يوم تقول فيه يقين: “أحبك، يا ذو اليقين”؟ أم ستبقى العلاقة كما هي… صدقٌ نادر بين رجل يؤمن، وامرأة تعني ما تقول؟هو لا يسأل. ولا يلحّ. هو فقط يكتب،ويحب،ويؤمن…ويترك للمكتوب أن يتم.

فبعض القصص لا تنتهي… لأنها تبدأ كل يوم من جديد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button