أخبارالذكاء الاصطناعي AIالرئيسيةفي الصميم

ما التعليم الذي نحتاجه في زمن الذكاء الاصطناعي؟

✍️ بقلم: د. مهدي عامري_أستاذ الذكاء الاصطناعي بالمعهد العالي للإعلام والاتصال-الرباط- المغرب

هل يعقل أن يقضي الإنسان ثلث عمره في مؤسسات التعليم، ثم يخرج منها عاجزًا عن مواجهة واقعٍ يتغيّر كل يوم؟ هل من الممكن أن تبقى مدارسنا تدرّس بمنهجٍ من القرن الماضي في زمنٍ صارت فيه الآلات تفكّر، وتكتب، وتترجم، وتُبدع؟ ألسنا بحاجةٍ إلى ثورةٍ هادئة، تبدأ لا بتغيير البرامج فقط، بل بإعادة تعريف معنى التعليم نفسه؟ إنّنا نعيش لحظةً غير مسبوقة في تاريخ الفكر الإنساني؛ لحظة انكشاف الحدود القديمة بين “المعلم” و”المتعلم”، بين “العالم” و”الجاهل”، بين “المدرسة” و”الحياة”.

فالذكاء الاصطناعي التوليدي – هذا الكائن الرقمي الذي يُجيد الكتابة والتحليل والتفكير – جعلنا نعيد النظر في ما تعوّدنا أن نسميه “جهدًا علميًا” أو “تحصيلًا معرفيًا”. من كان يحتاج ثلاث سنواتٍ لإنجاز بحثٍ جامعي، أصبح الآن قادرًا على إنجازه في ثلاثة أشهر بفضل أدواتٍ مثل ChatGPT، Gemini، Claude، وغيرها.

ومع هذا التحول الهائل، يظلّ السؤال الأخطر: هل تغيّر التعليم حقًا، أم أننا ما زلنا نُدرّس كما كان يُدرّس أجدادنا في القرن العشرين؟ إنّ طول سنوات الدراسة لا يعني بالضرورة عمق الفهم، بل قد يكون أحيانًا دليلًا على بطء في الرؤية وجمودٍ في التفكير. فما قيمة أن يحفظ الطالب ألف نظرية إن لم يُحسن توظيف واحدةٍ منها في الحياة الواقعية؟ وما نفع الشهادة إن كانت تُغذّي الغرور بدل أن تُثمر عملاً نافعًا؟ إنّ الغاية من التعليم ليست الامتلاك، بل الإثمار.

وكل علمٍ لا يُترجم إلى نفعٍ أو فعلٍ أو معنى، هو علمٌ ناقص، مهما كثر أصحابه ومؤسساته. لقد غرق نظامنا التعليمي في الشكلانية، فأصبح النجاح مرادفًا للعلامة، والتفوق مرهونًا بالشهادة، والنبوغ محصورًا في الامتحان. و المدرسة – كما تُمارَس اليوم – تُنتج نسخًا متشابهة من العقول، و تُمجّد التلقين وتخشى السؤال. في حين أنّ التربية الحقّة هي التي تُربّي ملكة التساؤل قبل أن تُنمّي مهارة الجواب.

إننا نحتاج إلى مدرسةٍ تُعلّم التلميذ كيف يُفكّر، لا كيف يُطيع، و تُحفّزه على التجريب، لا على الخضوع. و لعل التعليم كما نعرفه اليوم نشأ في عصر الصناعة، حيث كان الهدف تكوين عمّالٍ ومنفّذين، لا مفكّرين ومبدعين. لذلك صُمّمت المناهج على مبدأ الانضباط لا الاكتشاف، وعلى التكرار لا الابتكار.

أما اليوم، فقد تغيّر العالم؛ أصبح الذكاء الاصطناعي هو العامل الجديد في مصنع الحياة، والإنسان مطالبٌ بأن يصبح المُوجِّه لا المُنفِّذ. غير أنّ مدارسنا لم تدرك بعد هذه النقلة النوعية، فهي ما تزال تُعلّم كما لو أنّ العالم لم يتبدّل، وكأنها تخشى أن تنكسر قداسة التلقين حين يدخل الذكاء الاصطناعي إلى الفصول. يا أيها المعلم، يا من تُربي العقول: إنّ دورك لم يعد أن تُلقّن، بل أن تُلهِم. ويا أيها الطالب، يا من تبحث عن مستقبلك: لست مدعوًّا لتكديس المعرفة، بل لتحويلها إلى بصيرة و طاقة من النور.

فالعلم في عصر الذكاء الاصطناعي لم يعد في اليد التي تكتب، بل في العين التي تُميّز، والقلب الذي يُوازن. إنّ الأمية الجديدة ليست أمية القراءة والكتابة، بل هي أمية الذكاء الاصطناعي؛ فمن لا يُحسن استخدام هذه الأدوات بوعيٍ أخلاقيٍ ونقدي، سيبقى خارج التاريخ، مهما كانت شهاداته عالية.

وها هنا نُدرك أن ما نحتاجه ليس إضافة دروسٍ في “الرقمنة” أو “الذكاء الاصطناعي”، بل تحويل فلسفة التعليم من الداخل: من الحفظ إلى الفهم، من التنافس إلى التعاون، و من الخضوع إلى الإبداع. فالتعليم ليس أن يُملَى عليك ما تفعل، بل أن تُكتشف فيك القدرة على أن تعرف ما الذي تفعل.

أي نعم، إننا بحاجةٍ إلى إعادة تأسيس تربويٍّ شامل، لا يكتفي بترميم النظام القديم، بل يُعيد بناءه على أسسٍ معرفية وروحية جديدة. إنّ الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي مهدّد بأن يفقد ذاته إن لم يُجدّد علاقته بالعلم.

فالآلة اليوم تُقدّم له المعلومة، لكنّها لا تمنحه الحكمة؛ و تُسهّل عليه البحث، لكنها لا تُعلّمه كيف يتأمل؛ و تُنظّم له الفكرة، لكنها لا تزرع فيه المعنى. فهل نرضى أن نُسلّم أبناءنا إلى أدواتٍ بلا ضمير، من غير أن نُعلّمهم كيف يتعاملون معها؟ إن الذكاء الاصطناعي، كما نراه اليوم، يمتحن أخلاق المعلّم قبل علمه، وضمير الطالب قبل ذاكرته.

فمن لم يربط التقنية بالقيمة، والعقل بالوجدان، والمعرفة بالفعل، فقد سقط في فخّ الاستهلاك الرقمي. لذلك فإنّ التعليم في القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن يكون تقنيًا فحسب؛ بل يجب أن يكون إنسانيًا، تأمّليًا، ومسؤولًا.

و هنا يجب أن نعلّم أبناءنا كيف يستخدمون الذكاء الاصطناعي ليُبدعوا، لا ليغشّوا؛ ليبحثوا، لا ليختصروا؛ ليبنوا العالم، لا ليختبئوا وراء الشاشات. وهنا تبرز الحاجة إلى ثلاثة تحوّلات تربوية كبرى:

1. تحوّل في دور المعلّم: لم يعد المعلم حارسًا للمعرفة، بل صار موجّهًا للبحث، يُرافق الطالب في رحلة الاكتشاف. يجب أن يتحول من “مصدرٍ للمعلومة” إلى “منارةٍ للقيمة”، يعلّم طلابه كيف يسألون بذكاء، لا كيف يجيبون بسرعة.

2. تحوّل في فلسفة المنهج: لا يكفي أن نُدخل الحاسوب إلى الصف، بل يجب أن نُعيد تصميم المناهج على أساس التفكير النقدي، والتعاون، والتعلم الذاتي. التعليم المستقبلي يجب أن يربّي على مهارات التأمل، والكتابة التوليفية، والإبداع، بدل الحفظ الأعمى للمقررات.

3. تحوّل في غاية التعليم: الهدف لم يعد إعداد خريجين لسوق الشغل، بل بناء مواطنين رقميين مسؤولين، يفهمون أخطار التقنية قبل إغراءاتها، ويُسهمون في بناء عالمٍ أكثر عدلًا ووعيًا.أيها المربّون، قوموا من النوم ! فالتلميذ الذي يكتب بحثًا بالذكاء الاصطناعي دون فهمٍ ولا تفكير، لم يتعلّم شيئًا. والمعلم الذي يخاف من هذه الأدوات بدل أن يُرشد إليها، لم يؤدّ رسالته. والنظام الذي يقيس المعرفة بالدرجات، لا بالفهم، يُهيّئ جيلاً من المنفّذين لا من المبدعين.يا أبناء هذا العصر، إنّ الذكاء الاصطناعي ليس عدوّكم، بل مرآةٌ لكم؛ فإن كنتم سطحيين، زادكم سطحية، وإن كنتم باحثين عن الحقيقة، رفعكم إليها.

ولهذا يجب أن نزرع في الطالب روح السؤال قبل أن نضع في يده الأداة، وأن نغرس في المعلّم فضيلة الإصغاء قبل مهارة الإلقاء. فالعصر القادم لا ينتظر منّا حفظ المعلومات، بل إبداع المعاني. ولن يتحقق هذا إلا بتعليمٍ جديدٍ يُعيد التوازن بين العقل والروح، بين السرعة والتأمل، بين التقنية والقيمة.

انه نوع من التعليم يرى في الذكاء الاصطناعي وسيلةً لتوسيع أفق الإنسان، لا لتقليص إنسانيته. إنه تعليمٌ يُعيد للمدرسة رسالتها الأخلاقية: أن تكون منارةً للحكمة، لا مصنعًا للشهادات.

وفي الختام، نوصي بما يلي:

– أن تُدمج مادة “التفكير الأخلاقي في الذكاء الاصطناعي” في جميع مراحل التعليم،

– أن تُعطى الأولوية للتعلّم القائم على المشاريع والاكتشاف،

– أن يُشجع الأساتذة على التعلّم مدى الحياة باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي،

– أن تتحوّل الجامعة إلى فضاءٍ للحوار بين الإنسان والآلة، لا إلى صراعٍ بينهما،

– وأن يُربّى الجيل الجديد على أن الذكاء الحقيقي ليس في البرمجة، بل في الضمير الذي يوجّهها.

فيا طلاب المعرفة، لا تخافوا من الذكاء الاصطناعي، بل خافوا من أن تفقدوا إنسانيتكم وأنتم تستخدمونه. ويا صُنّاع القرار، لا تضيّعوا الوقت في ترقيع المناهج، بل ابدؤوا من الفكرة: ما معنى أن نتعلّم في عصرٍ لم يعد فيه العلم حكرًا على أحد؟ هل يعقل أن نُعلّم أبناءنا كما تعلّمنا نحن، وقد تغيّر كل شيء من حولنا؟ أليس الأجدر أن نربّيهم على ما لا تستطيع الآلة أن تُتقنه: الرحمة، الإبداع، الضمير، والتأمل؟ نعم، آن الأوان لأن ننتقل من “مدرسة التلقين” إلى مدرسة الوعي، ومن التعليم الذي يُعدّ للوظيفة إلى التعليم الذي يُعدّ للوجود. فالتعليم الذي لا يُربّي القلب، مهما أدخل من تقنياتٍ، سيبقى ناقصًا.

والمعلم الذي لا يُلهِم، مهما استخدم من وسائل، سيبقى صوتًا بلا أثر.

إنّ الذكاء الاصطناعي ليس نهاية التعليم، بل بدايته الحقيقية. بدايته كرحلةٍ نحو فهم الذات، ونحو علمٍ يُنقذ الإنسان من فراغه، لا من جهله. فلنتسلح بالشجاعة، ولنُفكّر بعمق، ولنجعل من مدارسنا ورشاتٍ للفهم والإبداع، لا مخازنَ للحفظ والدرجات.هلمّ إذا إلى الفعل… فالمستقبل ينتظر أولئك الذين فهموا أن التعليم ليس ماضيًا يُكرَّر، بل مستقبلًا يُبتكر.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button