أخبارأخبار سريعةالناس و الحياةمجتمع

الطريق الى الشفاء

يقول الراوي:

“كنت أعلم أن الأمر سيحدث، لكن ليس بهذه السرعة، ولا بهذا البرود الذي يغلف جملة واحدة من طبيب يظن نفسه محايدًا. “لديك بضعة شهور فقط، يا خليل، السرطان تمدد، ولم يعد أمامنا الكثير.”

كانت الجملة الجهنمية تتكسر كالزجاج في صدري، لكنها لم تصدمني كما ينبغي، ربما لأني، في أعماقي، مذ رحلت ليلى، كنت أعيش على الهامش.

بقلم: د. مهدي عامري كاتب وأستاذ باحث

ثلاث سنوات مرت على غيابها، ولا شيء داخلي عاد كما كان، ملامح وجهي تغيرت، طعم القهوة في فمي أصبح أكثر مرارة من ذي قبل، حتى الأغاني لم تعد كما كانت، وحتى أعذب الكلمات…

وكنت أمضي في حياتي بروح مثقلة، بلا شغف، بلا دهشة، وبلا أي حب للاطلاع والاكتشاف. وظللت أكتب لأني لا أعرف كيف أخرج من حلقة هذا المدد الآتي من السماء، وواصلت تدوين اليوميات، الواحدة تلو الأخرى، دون كلل أو ملل، لأني تعودت على ذلك منذ سنوات.

أما الآن، بعد أن قال القدر – ربما كما خُيّل إليهم؟ – كلمته الأخيرة، لم يبقَ لي سوى شيء واحد: أن أعيش حتى النهاية بشرف العاشق الذي لم يخن ذاكرته. قررت ألا أرحل وأموت كما الآخرين، بين أسرّة المستشفيات، وتحت رحمة الكيماوي، بل أن أمشي إلى الموت بكامل أناقتي واحتراقي، وبمنتهى الجنون…

وما العيب في الجنون؟ ألا يقول المتصوفة إنه إحدى بوابات المعرفة؟ وهل الحب سوى جنون مُبارك ونار مقدسة تلهب من يمسّها فلا يعود بتاتًا كما كان؟ كنت أقول لنفسي كل صباح: لولا ذكراك يا ليلى، لكنت الآن مجرد جثة تنتظر حفّار القبور. لكن ذكرى “الديفا” تشتعل في كل خلايا عقلي وبدني كما تفعل النار بالعود اليابس.

وكنت أخرج كل صباح، أركض حينًا، وأمشي حينًا آخر… كنت أتنفس رغم الألم، وأقاوم الوحش الذي يحاول التهام جسدي من الداخل، فالسرطان وحش عديم الوجه والصوت والشفقة والملامح… لكنه يعرف كل نقطة ضعف فيك.

وبالمقابل، قررت ألا أستسلم للوحش، مستمدًا الصمود من إيماني القديم الذي ربما جدده المرض، وقواه، وضخّ في شرايينه طوفانًا من الدماء. لذلك قاومت… التزمت بالدواء، نعم، لكن تقيدت أكثر بما هو أعمق من الكيمياء: الأكل النظيف، والتفكير الصحي، والوفاء للحب الذي يسكنني كدين لا يسقط بالتقادم. وكان صديقي مراد يعرفني أكثر مما يعرف البخيل جيبه… كان قد قال لي ذات مساء: “الفرق بينك وبين غيرك ليس المرض، بل توقد الفكرة. أنت ما زلت ترى الحياة رغم كل شيء. أنت لست شاعرًا فقط يا خليل، أنت محارب حالم، وهذا نادر.”

أجبته ساخرًا وأنا أتظاهر بإشعال سيجارة – دون أن أفعل لأني كنت قد توقفت عن التدخين منذ عشرة أعوام –: “أنا أقاوم لأني أكره السجائر”… وواصلت كلامي، لكن جادًا هذه المرة: “أقاوم لأني أعشق نعمة النعم: الحياة.

ولأني إن متُّ الآن، سيُغلق كتابي على جملة ناقصة.” وأظنني كنت صادقًا، إذ أعرف رجالًا ماتوا و هم احياء ، لأنه لم يكن في صدورهم نار. أما أنا، فقد جعلت من ليلى ناري المقدسة، أتدفأ منها، وأشتعل بها، وأحرق بلهبها ضعفي.
ولكم كنت أود أن أقول للطبيب حين رأيته يحدق في نتائج التحاليل بدهشة: “هل تؤمن بالمعجزات، دكتور؟” لكنه سبقني، بصوته المرتبك: “كل شيء تغير… أنت في مستهل الخمسين، وكان السرطان يفتك بكل شبر من جسمك، وكنا نفكر في النهاية الحتمية، غير أن التحاليل تظهر أمرًا غريبًا لا يصدقه العقل… لقد اختفى السرطان، فكأنك لم تُصب به!”
وأطرق صامتًا بضع ثوانٍ، ثم تهلل وجه الطبيب بالبشر، وأضاف بنبرة تفيض بالسعادة: “خليل، لقد انتصرت على العدو!”

ربّاه!

ودمعت عيناي، وكانت تستبد بي رغبة نارية جنونية في الإجهاش بالبكاء، لكني قاومت، وتمالكت نفسي. ولما عاد إليّ هدوئي بعد دقيقتين، قلت في داخلي: “لا، أنا لم أنتصر… حبي لك يا ليلى هو الذي فتك بالسرطان.” وسرعان ما ارتسمت على محياي ابتسامة الممتن للحيّ القيّوم… لوهاب النور والحياة.

وأخيرًا، نظرت عبر النافذة نحو السماء، فرأيت حمامة بيضاء تحلّق في أعلى نقطة من محيط أزرق لامتناهٍ. وفي لحظة غريبة سكنت فيها الأصوات، وتجمد داخلها الزمن والخوف وكل إحساس سلبي يمكن لك أن تتخيله، شعرت أن ليلى هناك، تحوم حولي، كما كانت تفعل حين أغرق في صمتي الطويل. وشعرت أن الموت تأجّل لموعد آخر قد اختفى خلف أستار الغيب، ربما ليس لأن الجسد تعافى، بل لأن القلب لم ينتهِ بعد من كتابة قصة حبّنا، يا ليلى…

والآن، وأنا أُخط بيميني هذه السطور، أتساءل وأفكر: هل يمكن للحب أن يكون الدواء؟ هل يمكن للذكرى الطيبة وروحها التي لا تشيخ أن تهزم خلايا الموت؟ هل نحن فقط بنو آدم، من طين خُلقنا وإليه نعود، أم أننا أكثر من ذلك: إرادة من النار، وقبس من النور، وكتلة من الطاقة الرحمانية الهائلة التي لا يراها الأطباء بمجاهرهم في المختبرات؟ “

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button