أخبارالرئيسيةثقافة و فن

التخيل التاريخي وأرخنة الخيـال

    بقلم: د. عزيز زروقي

آن الأوان لكي يحل مصطلح (التخيل التاريخي) محل مصطلح “الرواية التاريخية”،  إحلال سوف يدفع بالكتابة السردية التاريخية إلى تخطي مشكلة حدود الأنواع الأدبية ووظائفها، ثم إنه يفكك ثنائية التاريخ والرواية، ويعيد دمجها في هوية سردية جديدة، ولا يرهن نفسه لأي منهما، كما أنه سوف يحيد أمر البحث في مقدار خضوع التخيلات السردية لمبدا مطابقة المرجعيات التاريخية، فينفتح على كتابة لا تحمل وقائع التاريخ، ولا تعرفها، إنما تبحث في طياتها عن العبر المتناظرة بين الماضي والحاضر، وعن التمثلات الرمزية فيما بينها، فضلا عن استيحاء التأملات والمصائر والتوترات والانهيارات القيمية والتطلعات الكبرى، فتجعل منها  أطرا ناظمة لأحداثها ودلالاتها. فكل تلك المسارات الكبرى التي يقترحها “التخيل التاريخي”، تنقل الكتابة السردية من موقع جرى تقييد حدوده النوعية، إلى تخوم رحبة للكتابة المفتوحة على الماضي والحاضر. فلا مجال للشك في أن كتابة مشاهد تاريخية باهرة هو شكل فني، مادامت تشكل ممارسة خيالية بديعة وقسطا هائلا من الجهد الشاق.

 رافق المتخيل الإنسان منذ أن أدرك أن وراء الواقع المعيش واقعا آخر أكثر جمالا أو أقل قبحا. ففي الزمن الذي يساوي مكانه سجن، وفي المتخيل ما يحرر الزمن من مكانه ويجعله أكثر اتساعا. وما الرحلات وتحصيل المعارف، والتجارب الروحية السامية إلا سبل متعددة، توسع المكان وتمد الإنسان بأجنحة غير منظورة. وسع الإنسان في العصر النهضوي في الزمن الأوربي زمنه متوسلا البحث العلمي والكشوفات الجغرافية متمسكا بفكرة: المجهول القابل للاكتشاف بين العلم؛ أي في المواد الصغيرة أكوانا رحبة. ووسعت الرحلات المكان والزمان معا، وصيرت فكرة المجهول المعلوم للإنسان مكتشفا متعدد الجهات حيث أخذت الرواية بمعطيات المجتمع البورجوازي المختلفة ودفعتها إلى حدودها الأخيرة مبرهنة أن الفضاء الروائي  مزيح من المعرفة والبصيرة، أو لقاء محسوب بين الواقعي والمتخيل.

ولعل الرجوع إلى بعض الروايات الأوربية في القرنين الثامن والتاسع عشر، يكشف بيسر عن العلاقة بين الرواية ونزوعات زمنها الاجتماعي، مدللا أن في الرواية علاقة اجتماعية في جملة من العلاقات الاجتماعية التي يظهر فيها المتخيل البورجوازي إن صحت العبارة في رواية الفرنسي (جول فيرن) 1828ـ 1905م الذي استند إلى زمنه وتحرر منه معا في انصراف إلى رواية الخيال العلمي التي تحاور مجهولا متعدد العناصر، وبقي في مستوى ثان، واقفا في زمنه ومعبرا عنه شارحا، إلى تخوم التبسيط، إلى مقولات الفكر البورجوازي ” الانسان العقلاني” الذي يخترع الأداة الملائمة التي تصل بين بداية معروفة ونهاية قيد الاكتشاف؛ “مبدأ التحويل الشامل ” الذي ينتج من عناصر عادية متفرقة أشياء جديدة “سلطة العلم والاكتشاف”، التي تروض الطبيعة، وتلحقها بأطراف الإنسان ” بطولة الاختراع”. التي تمجد المكتشف الذي يحتضن المعرفة والشجاعة بسلطة العلم ويشتق منها ” ايديولوجيا علمية” وثوقية تنطق بالماضي وتستدعي المستقبل وتستأنس ما بينهما.

تحتل التخيلات التاريخية منطقة التخوم الفاصلة بين الواقعي والخيالي، ولطالما نظر إليها على أنها منشطرة بين صيغتين كبيرتين من صيغ التعبير: الموضوعية والذاتية، فهي نصوص سردية أعيد حبك موادها التاريخية، فامتثلت لشروط الخطاب الأدبي، وانفصلت عن سياقاتها الحقيقية، ثم اندرجت في سياقات مجازية. صحيح أن الميل الكبير في نظرية السرد الحديثة في كتابة التاريخ وفلسفة التاريخ كما في السردية، هو نزع الزمانية عن السرد، فالصراع ضد التمثيل الخطي للزمن لا ينطوي بالضرورة على حصيلة واحدة لا يتجاوزها تحويل السرد إلى “منطق”، بل إنه بالأحرى يعمّق زمانيته. فكتابة التعاقب الزمني Chronologie‏ أو (الكرونوغرافيا) ‏ ليس لها نقيض واحد فقط هو: اللازمانية. كان حقا من الضروري الاعتراف بما هو غير زمني من أجل اتخاذ موقع نصف تماما للزمانية الإنسانية. والتقدم لا باقتراح إلغائها بل بسبر غورها لتنضيد تراتبها، وبسطها بمتابعة مستويات التحقيب التي ما تبرح تقل انتشارا وتبدد، وتزداد ثباتا وسعيا.

هناك تناقض واضح بين التوثيق التاريخي والسرد الخيالي، ذلك لأنهما يختلفان في طبيعة الاتفاق الضمني المنعقد بين الكاتب وقارئه. ومعلوم أن هذا الاتفاق عرفي لكنه يبنى على توقعات مختلفة من ناحية القارئ، ووعود مختلفة من ناحية المؤلف، فحينما يفتح قارئ صفحات عمل روائي، فإنه يهيئ  نفسه ليدخل عالما غير واقعي، وفي هذا العالم الجديد لا يجادل أحد في أن الرواية نص  سردي، وأن السرد هو الطريقة التي يروي بها الراوي القصة للقارئ. يكمن الجدال الجدي في تحليل طريقة الراوي رواية القصة، لأن مهارته وخصوصية الرواية تنبعان من الراوي المختار، ومن علاقته ما يرويه، ومن الـكيفية التي يروي فيها الحوادث الروائية، ولا تنبعان من الحوادث نفسها أو من الأفكار التي تضمّها الرواية، تبعا لتوافر إمكانية تقديم أفكار معينة وحوادث محددة بمئات الطرق. بل إن (جيمس جويس) James Joyce صرح بأن: (هناك خمسة ملايين طريقة لحكي حكاية واحدة حسب الأهداف التي نقصد إليها(. ولا أشك في أن (جيمس جويس) James Joyce لا يقصد هذا الرقم حرفيا، بل يقصد الإشارة إلى الإمكانات الـكبيرة المتاحة أمام الرواة لرواية حكاية واحدة، وهذا ما يجعل كل طريقة من طرق سرد الرواية تعبير عن القدرات الفنية للروائي؛ كاتب الرواية ودلالة على تفرده. ولكن حينما يفتح القارئ كتاب تاريخ يتوقع أن يدخل، تحت قيادة الأرشيف، في عالم الأحداث التي حصلت بالفعل، فإنه يأخذ حذره ويطلب خطابا لم يكن صحيحا بصورة تامة.

فما هو هذا المتخيل الذي به وفيه تتعقلن سياسة هذه الرغبة؟ أي دور ووظيفة كتابة التاريخ في نشأة هذا المتخيل وبناء هذا المخيال؟

أ-التمثيل التاريخي وهيبة الصورة

لا تبدو إثارة البعد الأيقوني للتمثيل التاريخي أنها تحمل معها انقلابات كبيرة في تحليلنا. بالفعل فإما أن الأمر لا يتعلق إلا بالتعارض بين نوعين أدبيين قائمين؛ هما القصة الخيالية والقصة التاريخية، وإنما لا نفعل شيئا سوى أننا نشدد على بعض السمات الواضحة للسردية، والتي شرحت طويلا تحت عنوان ” التأثيرات البلاغية المصاحبة لعملية الحبكة”.

إن زوج القصة التاريخية / القصة الخيالية الذي قد تشكل على مستوى الأنواع الأدبية هو زوج تناقضي واضح، فالرواية حتى وإن كانت واقعية هي أمر مختلف عن كتاب تاريخ. إنهما يختلفان في طبيعة الاتفاق الضمني المعقود بين المؤلف وبين قارئه. هذا الاتفاق وإن لم يصغ كتابة غير أنه يبني توقعات مختلفة من ناحية القارئ، ووعودا مختلفة من ناحية المؤلف. حين يفتح القارئ رواية يحضر نفسه ليدخل عالما غير واقعي، وبالنسبة إلى هذا العالم مسألة مكان وقوع الأحداث وزمانها هي مسألة في غير محلها، في المقابل هذا القارئ في استعداد لأن يقوم بما يسميه (صموئيل كولوردج) Samouel Coleridge 1834 ـ1771م “التوقف الإرادي لعدم التصديق”، شرط ألا تكون القصة المروية مثيرة للاهتمام. إن القارئ يوقف بمحض إرادته حذره وارتيابه وعدم تصديقه، ويقبل أن يلعب لعبة كما لو كما أن هذه الأشياء المروية قد حصلت فعلا.

حين يفتح القارئ كتاب تاريخ يتوقع أن يدخل تحت قيادة الأرشيف، في عالم الأحداث التي حصلت بالفعل، أضف إلى ذلك أنه حين يجتاز عتبة المكتوب فإنه يأخذ حدره ويفتح عين النقد ويطلب خطابا، إن لم يكن صحيحا يقارن بخطاب كتاب فيزياء، فعلى الأقل ممكنا قابلا للتصديق ومحتملا، وفي كل حال أمينا صادقا، ولما كان قد تربى على ملاحقة العمل المزور، لذا فإنه لا يرضى أن يتعامل مع كاذب. فعلى الرغم من التمييز المبدئي بين الماضي الواقعي وبين القصة الخيالية اللاواقعية فإن معالجة دياليكتكية لهذا الانقسام البدائي تفرض نفسها بسبب تقاطع التأثيرات المتأتية من القصص الخيالية ومن القصص الحقيقية على مستوى ما يمكن تسميته ” عالم النص” الذي يشكل المفتاح لنظرية حول القراءة إن ما كنا ندعوه في السابق “إضفاء الطابع القصصي الخيالي على الخطاب التاريخي”. يمكن أن تعاد صياغته على أنه تقاطع قابلية القراءة وقابلية الرؤيا. ما يمكن أن يقرأ، وما يمكن أن يرى من داخل التمثيل التاريخي. وهي هنا الصلة التي حبكت بين المقروء وبين المرئي على صعيد تلقي النص الأدبي.

تعطي القصة ما هو للفهم وما هو للرؤية. إن فصل التأثيرين المتداخلين يصبح سهلا حين تنفصل عملية صنع اللوحة ومتابعتها. الجمود الوصفي والتقدم السردي الفعلي الذي يعجل فيه ما يسميه (أرسطو)    Aristote في كتابه “فن الشعر” الانقلابات والتغيرات، وهي تتعلق بشكل خاص بالمفاجآت وبالأعمال العنيفة. إن المؤرخ يعرف جيدا هذا التبديل وأحيانا عديدة يجمع العديد من اللوحات كي يصور الوضع الذي تبدأ فيه قصته، وبالطريقة نفسها يستطيع أن ينهي كتابه، إلا إذا اختار أن يترك الأمور معلقة، كما فعل )توماس مان(  Thomas Mann  حين فقد عن  قصد أثر بطله في نهاية روايته “الجبل السحري”.

إن المؤرخ ليس غريبا عن مثل هذه الاستراتيجيات لختام القصة التي تكتسب معناها، بالنسبة للقارئ المستنير إلا لصالح لعبة خبيرة من الإحباط مع توقعاته المألوفة، غير أن قابلية الرؤية لا تتغلب نهائيا على قابلية القراءة إلا مع رسم شخصيات القصة سواء أكانت قصص حياة، أو قصص خيال، أو قصصا تاريخية. يسعى التاريخ بخطابه النفعي إلى الكشف عن القوانين المتحكمة في تتابع الوقائع، في حين أن الأدب والرواية على وجه الخصوص خطاب جمالي تقدم فيه الوظيفة الإنشائية على الوظيفية المرجعية. فليس من شك في أن الرواية التاريخية تنطلق من الخطاب التاريخي، ولكنها لا تنسخه بل تجري عليه  ضروبا من التحويل حتى تخرج  منه خطابا جديدا له مواصفات خاصة، ورسالة تختلف اختلافا جذريا عن الرسالة التي جاء التاريخ مضطلعا بها.

وعلى هذا يندرج التاريخ في منظومة الأجناس ذات الغاية النفعية، وتندرج الرواية في منظومة الأجناس ذات الغاية الجمالية.

تندمج هذه الثنائية في الرواية التاريخية التي تتميز عن غيرها من أنواع الكتابة التخيلية بكونها تعلن استنادها إلى حوادث ماضية دونها السابقون، ومن ثم فإنها تستمد وجودها من الدوران حول هذا النص أو النصوص الماضية، مما يكثف صلتها بهذه الوقائع ويضفي على عالمها صيغة مرجعية واضحة، فهويتها السردية تتحدد من خلال التنازع بين التخيلي والمرجعي. فتكون الرواية التاريخية نوعا من السرد الذي غدت الحقائـق الـتـاريـخـيـة أخيلة الكتاب الروائيون، فراحوا يبدعون هذا الأدب الاستهلاكي الرخيص الذي لا غاية من وراء كتابته ونشره غير الاتجار والتسلية.

لا بد من إثارة الانتباه إلى الطفرة التي تشهدتها الرواية المغربية من خلال نسج علاقات متشابكة ومركبة بين الرواية والتاريخ، إذ بات “التخيل التاريخي” هو تلك المادة التاريخية المتشكلة بواسطة السرد، و المنقطعة عن وظيفتها التوثيقية والوصفية إلى وظيفة جمالية ورمزية، فهو لا يحيل على حقائق الماضي ولا يقررها ولا يروج لها، إنما يستوحيها بوصفها ركائز مفسرة لأحداثه، وهو من نتاج العلاقة المتفاعلة بين السرد المعزز بالخيال، والتاريخ المدعم بالوثائق.  فلم يبق بالإمكان قبول التصورات الأولى لوظيفة “الرواية التاريخية” كما أشار إليها الروائي جرجي زيدان، معتبرا أنها قد استنفدت طاقتها الوصفية بعد أن جرى تحويل جذري في طبيعة تلك الكتابة السردية التاريخية التي استحدثت لها وظائف جديدة لم تكن معروفة آنذاك، إذ وجدت طريقها إلى التخييل التاريخي الذي يسمح بإقحام الأهواء والاستيهامات دون أن تتأثر قيمة الواقعة التاريخية متمثلة ومتخيلة، بالإضافة إلى حضور “الميتاناصات” و”الميتا تخييل”.

وقع اختياري على نماذج  لروايات مغربية لأعلام تاريخيين؛ كابن خلدون وابن سبعين وابن تومرت، أرست تفاعلا بين صور الماضي والحاضر، وأعطت للسارد/المؤلف إمكان الاختفاء وراء الواقعة التاريخية واختيار المواد الملائمة له، علما أن التخييل التاريخي في الرواية المغربية، اضطلع  الرد على تيارات ما بعد الحداثة، وإعادة الثقة بالتاريخ، ليس كمواد مسرودة، ولكن كرؤية سردية واعية بدورها، متأثرة بأسئلة الحاضر، منتبهة إلى عمق تأثير التاريخ على الحاضر.

فلربما كل سردية تاريخية أو تخييلية منفلتة قد تحيي أوجاعا وآلاما، وتربك سؤال التقدم والنسق والمواطنة.

يمكن أن نعتبر روايات “العلامة ” و”أنا الأندلسي” لحميش، و”ثورة المريدين ” لسعيد بنسعيد العلوي نماذج لمعرفة كيف  يصبح متاحا لصانع التخييل التاريخي أن يخرم العدة المنهجية، ويلتزام بالأخلاق كما في حالة حميش و بنسعيد العلوي، يستكشف حميش سيرة ابن خلدون مركزا على الدور المركب الذي اضطلع به الرجل في مرحلة حاسمة من مراحل الشرق الأوسط كضعف النسق المملوكي، ملمحا إلى أن المثقف لا يخون ولا يضعف في اللحظات العصيبة، دون أن يفقر الجانب الوجداني عند ابن خلدون، ووصفه لما يطرأ على كل الناس من حب وضعف، لكنه يمنحه مزايا الصدق والجرأة والثبات على الموقف، حينما يذهب لمفاوضة “التتار” وتجنيب الممالك النهايات الحزينة، هذا في الوقت الذي فر الحاكم برقوق وحاشيته خوفا وفزعا وجبنا. واضح أن ابن خلدون، في علامة حميش، ليس ابن خلدون في كتب التاريخ، إنه ابن خلدون المفضي إلى صوت المؤلف والمترجم لنسق قيمي انتشر بين عينة من المثقفين، قائم على الحجاج مع من يعنيه الأمر لصالح المثقف.

شخصية ابن خلدون شخصية إشكالية، في حين يبدو ابن سبعين مثالا حيا للشخصية التراجيدية التي ترى ولا تدري، تتعذب وليس لها من سبيل للخلاص، يتم عرضها مترحلا من الأندلس إلى المغرب حاملا حقيقته التي عثر عليها، لكنه سيموت في مكة على إثر علمه بسقوط الدولة العباسية. ابن سبعين شخصية متعددة الأوجه والآلام، عرضها السارد وفق منظورات متعددة كالتاريخ والفلسفة والمعرفة والتصوف.

ومن خلال هذا النص الروائي نكتشف أن لكل زمن أندلسه الآيلة للسقوط. وأن في كل عصر حاكما ضالا يتقرب من الأعداء ويعذب شعبه ويطرده.

يسعى المؤلف سعيد بنسعيد العلوي في “ثورة المريدين” لسيرة ابن تومرت إلى كتاب أبي بكر البيدق تتبع وقائع حياة ابن تومرت، وكشف ذكائه واستراتيجيته لبناء فكره وتقوية عزيمة مريديه؛ كعبد المومن الكومي والوصول بها إلى بر الأمان، ثم الاختفاء. يتم التشكيك في رواية البيدق الأولى، ويتم التلميح إلى أن سيرة المهدي موجودة في كتاب تخيله المؤلف للبيدق المتضمن لحقيقة المهدي وسريرته. أطلق بنسعيد فهما جديدا للحقيقة الشخصية الخاصة بابن تومرت والحقيقة التاريخية الاجتماعية، وهو فهم يساعد الذات على التعالي عن الخداع، ويمكنها من عدم الوقوع في الفخ السلبي. في الحقيقة، ندرك أن المعاناة في حالة ابن تومرت هي واحدة من أساليب دعم القدرات التركيبية للذات ساردة ومسرودة.

ذات بنسعيد التخييلية، ذات قدرات لانهائية، تجمع بين السفر والرومانسية، وتجعلنا ندرك أن التعلم قرين التجربة، وأن التجربة هي التي رممت ما حطمه الطغيان والتفسخ نهاية الدولة المرابطية.

الرواية لا تقول التاريخ لأنه ليس هاجسها، ولا تتقصى الأحداث والوقائع لاختبارها، فليس ذلك من مهامها الرئيسية. تستند فقط على المادة التاريخية. وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله. فإذا اختارت الرواية الفضاء التاريخي المرجعي مجالا لها من أن تقول التاريخ. فإنها تقوله على طريقتها، ولعل هذا ما يعنيه حين يذكر بأن هذه الرواية تستند إلى المادة التاريخية. ويترتب على هذا أن الرواية من خلال حواريتها لا يمكن أن تكون إعادة كتابة للتاريخ، وإنما هي أتون ينصهر فيه العنصر التاريخي مع عناصر أخرى تسهم جميعا في بناء الكون التخيلي للرواية.

نحن هنا أمام سرد روائي عندما يصوغ حكاية تاريخية بطريقة ناجعة، لا يختزل التاريخ، ولكنه يكشف مهملاته ومنسياته، وأحيانا يبدد بعض شكوكه. هكذا تكون إذن الرواية محاولة إبداعية ناضجة تكرس علاقة مخصوصة مع الوثيقة التاريخية، فهي تنطلق منها وتسعى إلى إعادة بنائها عبر التصور حتى أننا لنشعر أحيانا أن الروائي ينطوي على مؤرخ يمتلك آليات البحث التاريخي ومنهجه. ولكنها من جهة أخرى لا تعتبر نفسها تابعة للوثيقة أو صدى لها. إنها قراءة إبداعية للتاريخ تنطلق منه ولا تقف عند حدوده. واعتبار التخيل التاريخي أجدر أن يحل محل ما اصطلح عليه بالرواية التاريخية لأن التخيل التاريخي سيمكن الكتابة السردية التاريخية من تخطي مشكلة الأنواع الأدبية وحدودها ووظائفها، ثم إنه يفكك ثنائية الرواية والتاريخ ويعيد دمجها في هوية سردية جديدة.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button