المغرب بين وضوح الرؤية الدبلوماسية وتماسك الجبهة الداخلية

يثبت المغرب، يوماً بعد يوم، أن وضوح الرؤية الدبلوماسية وقوة الموقف السياسي، حين يقترنان بيقظة أمنية وبنية اقتصادية مرنة، قادران على تعزيز موقع المملكة في محيط إقليمي ودولي بالغ التعقيد. التطورات الأخيرة في ملف الصحراء المغربية تكشف هذا التوجه بجلاء، مع تسجيل اختراق دبلوماسي لافت تمثل في التصريحات المباشرة لمستشار الرئيس الأمريكي مسعد بولس، التي أقر فيها، ولأول مرة، بمناقشة قضية الصحراء مع المسؤولين الجزائريين تحت سقف السيادة المغربية، وهو ما يشكل تطوراً غير مسبوق في لغة واشنطن تجاه النزاع.
هذا الموقف لم يمر مرور الكرام، إذ اختارت الجزائر تجاهله إعلامياً ورسميًا، في إشارة صريحة إلى حجم الانزعاج من استمرارية الموقف الأمريكي المُعترف بمغربية الصحراء. ومباشرة بعد ذلك، جاء تأكيد جديد من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي وجه رسالة تهنئة للملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لجلوسه على العرش، جدّد فيها الاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، واعتبر مقترح الحكم الذاتي السبيل الوحيد لحل هذا النزاع المزمن. الرسالة لم تقف عند حدود الموقف السياسي، بل شملت تأكيداً على قوة الشراكة بين الرباط وواشنطن، خاصة في المجالات الأمنية والتجارية، تحت مظلة اتفاقات أبراهام.
وفي الوقت الذي تعزز فيه المملكة موقعها خارجياً، يتواصل الحضور المغربي في المنظمات الدولية، حيث تم انتخاب المغرب نائباً لرئيس مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للبلدان غير الساحلية المنعقد بتركمنستان، في خطوة تعكس ثقة المجتمع الدولي في مقاربة المغرب التنموية والتضامنية، خصوصاً تجاه دول الجنوب.
داخلياً، تواصل عملية “مرحبا 2025” نجاحها التنظيمي، بعدما تجاوز عدد الوافدين إلى المملكة عتبة 2.7 مليون مسافر، في مؤشر على متانة علاقة الجالية المغربية بوطنها الأم، وكفاءة التدبير اللوجستي والمؤسساتي لهذه العملية الحيوية.
على الواجهة الأمنية، شكّلت عملية تحرير أربعة مواطنين مغاربة من قبضة تنظيم إرهابي ينشط على الحدود بين النيجر وبوركينا فاسو، دليلاً جديداً على نجاعة التعاون الاستخباراتي بين المغرب ومالي، وتقديراً ملكياً رفيعاً عبّر عنه الرئيس المالي عاصمي غويتا، الذي استقبل المحرَّرين شخصياً، مؤكداً أن الرباط وباماكو ماضيان في توطيد شراكة متينة لا تعيقها التحديات الأمنية.
أما على مستوى الحكامة، فقد أسفر تدخل حاسم عن توقيف قائد ترابي بمدينة مراكش بشبهة فساد، في ترجمة عملية لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجسيد لإرادة سياسية واضحة في محاربة كل أشكال الفساد.
اقتصادياً، تُظهر مؤشرات سوق الإسمنت نمواً سنوياً يفوق 11% مع نهاية يوليوز، ما يعكس دينامية ملحوظة في قطاع البناء، بالتوازي مع استقرار القطاع البنكي رغم استمرار تمركز النشاط المالي داخل ثلاث مؤسسات رئيسية. كما قامت الخزينة العامة بإصدار سندات بأجال متنوعة، ضمن تدبير نشيط ومرن لحاجيات التمويل العمومي.
في الجانب الإنساني، لقيت المبادرات الملكية الموجهة لفائدة الشعب الفلسطيني إشادة كبيرة من منظمة التحرير الفلسطينية، التي أكدت أن الدعم المغربي لفلسطين ليس ظرفياً ولا دبلوماسياً، بل هو تعبير عن موقف راسخ وأصيل في وجدان الشعب المغربي وقيادته، كما جددت إشادتها المتواصلة بالدور المغربي في أوقات المحن.
سياسياً، يعيد الوزير السابق عزيز رباح النقاش السياسي إلى سكته الأصلية، منبهاً إلى ضرورة تجاوز الحسابات الضيقة والخطابات الشعبوية، والعودة إلى جوهر النقاش العمومي المرتبط بقضايا التشغيل والتعليم والصحة. وفي حوار مطول، شدد على ضرورة احترام المؤسسات، والابتعاد عن شيطنة الخصوم، داعياً إلى الارتقاء بالخطاب السياسي بما يواكب تطلعات المواطنين.
وبينما تتعدد مؤشرات التقدم، وتبرز أوجه القوة المغربية على أكثر من صعيد، لا تزال غزة تنزف تحت نيران الاحتلال، وتحت أنقاضها تنكسر المعايير الدولية يوماً بعد آخر. وسط هذا الصمت الدولي المريب، تبقى المبادرات المغربية صرخة ضمير في وجه عالم يفقد توازنه الأخلاقي، وأمل شعوب حرة ترفض الخضوع.
هكذا، يواصل المغرب تثبيت أقدامه على درب التنمية والتوازن، بقيادة ملكية حكيمة، تدير تفاعلات الداخل والخارج ببصيرة استشرافية، لا تُخطئ الاتجاه.



