من قلب الزوايا إلى أسواق العالم.. المغرب يكتب فصلاً جديداً

في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه التحديات، تظل القرارات الجريئة والمبادرات النوعية مؤشراً على حيوية المجتمع المغربي وقدرته على التكيف مع المتغيرات. من قلب الزوايا الصوفية إلى أروقة القرار الاقتصادي، ومن الحراك الاجتماعي إلى الدينامية الدبلوماسية والتجارية، تتشكل لوحة معقدة من الوقائع والمواقف التي تعكس تنوع المشهد الوطني.
في مشهد روحي استثنائي، شهدت الساحة الصوفية المغربية خطوة غير مسبوقة تمثلت في إعلان الشيخ منير القادري بودشيش تنازله عن مشيخة الزاوية القادرية البودشيشية لصالح أخيه الشيخ معاذ، مؤكداً أن قراره جاء اتقاءً للتشرذم وحرصاً على سلامة السفينة وحفظاً لوحدة الأسرة والطريقة. وأوضح في بيان رسمي أن المشيخة تكليف لا تشريف، وأن تسليمها بعد استخارة وتوكل على الله هو السبيل الأمثل لتجنب الخلافات، داعياً جميع المريدين إلى الالتفاف حول القيادة الجديدة، ومشدداً على ضرورة كف الألسن عن الجدل وإغلاق أبواب التأويلات والظنون، مع التأكيد على التزام الزاوية بثوابت المملكة وولائها للعرش العلوي المجيد.
وفي الشأن الاقتصادي والاجتماعي، جاءت المذكرة التوجيهية لمشروع قانون المالية لسنة 2026 لتضع تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية في صلب أولوياتها، عبر الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية إلى نهج مندمج يضمن الولوج العادل لثمار التقدم الوطني، مع دعم التشغيل وتثمين المؤهلات الجهوية وتهيئة بيئة محفزة للاستثمار، وتعزيز الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة. وفي السياق ذاته، كشفت وزارة التربية الوطنية عن برامج لدعم التلاميذ المتفوقين من الأسر المعوزة، فيما شدد وزير الإدماج الاقتصادي على أن ريادة الأعمال النسائية ركيزة للتمكين الاقتصادي وتقليص الفجوة بين الجنسين. كما دخلت مؤسسة المغرب 2030 حيز التنفيذ، لتكون الإطار القانوني المنظم لجميع التظاهرات الدولية المرتبطة بكرة القدم التي ستحتضنها المملكة، بما فيها نهائيات كأس العالم 2030.
وفي مجال الشأن الديني، أعلنت وزارة الأوقاف عن إطلاق برنامج تأهيلي لتكوين 48 ألف إمام سنوياً، بمشاركة 1447 مؤطراً، مع تسجيل نسبة حضور بلغت 94.5% خلال 2025، في خطوة تعكس التفاعل الإيجابي مع أهداف تعزيز السكينة الروحية. أما في القطاع الحرفي، فقد وقعت مؤسسة التوفيق للتمويل الأصغر اتفاقية شراكة مع كتابة الدولة المكلفة بالصناعة التقليدية لتعزيز الشمول المالي للحرفيين، تماشياً مع التعليمات الملكية الداعية لجعل الاقتصاد الاجتماعي والتضامني رافعة للتنمية.
على صعيد المبادلات التجارية، يواصل المغرب ترسيخ مكانته بين كبار مصدري التوت الأزرق عالمياً محتلاً المرتبة الرابعة، كما سجل نمواً بنسبة 57.7% في صادراته إلى الأرجنتين خلال النصف الأول من العام، بما يضعه ضمن الدول الإفريقية القليلة التي تحقق فائضاً تجارياً مع بوينس آيرس. وفي المقابل، شهدت عملية “مرحبا 2025” إقبالاً غير مسبوق، حيث عبر نحو 2.8 مليون من مغاربة العالم الحدود منذ يونيو، في وقت احتفى فيه المكتب الوطني للمطارات بعودتهم من خلال أنشطة ثقافية وتجليات أصيلة للضيافة المغربية.
وفي أسواق المال، بلغ صافي الأصول تحت تدبير هيئات التوظيف الجماعي للقيم المنقولة 789.77 مليار درهم، بينما استهلت بورصة الدار البيضاء تعاملاتها على ارتفاع مدعومة بأداء قوي للقطاع البنكي الذي تصدر التداولات بقيادة بنك أفريقيا. وعلى مستوى المالية العمومية، تجاوزت المداخيل الجمركية 54.79 مليار درهم حتى نهاية يوليو، بزيادة 5.8%، مع انخفاض نفقات المقاصة إلى 6.5 مليار درهم، فيما بلغ عجز الميزانية 53.7 مليار درهم.
إنسانياً، قامت الحجابة الملكية بتسليم هبات للأسر المعوزة وذوي الاحتياجات الخاصة خلال موسم مولاي عبد الله أمغار، شملت حفظة القرآن وأطفالاً أيتاماً ومرضى، إلى جانب كراسي متحركة ونظارات طبية.
سياسياً، يتواصل النقاش حول مراجعة القوانين الانتخابية والتقطيع الانتخابي، وسط دعوات لضمان عدالة أكبر في التمثيل البرلماني وتعزيز تكافؤ الفرص بين مختلف المناطق.
أما الأوضاع الجوية، فتستعد المملكة لموجة حر شديدة مصحوبة برياح “الشركي” تصل إلى 47 درجة مئوية في بعض الأقاليم مثل طاطا وأسا-الزاك والسمارة، مع تحذيرات للمواطنين باتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة، خصوصاً لحماية الأطفال وكبار السن. وفي المجال الصحي، نفت الوكالة المغربية للأدوية وجود أي ندرة في الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، مؤكدة استقرار المخزون وتوفر الأدوية الحيوية.
وهكذا، يتضح أن المغرب يعيش مرحلة تتقاطع فيها التحولات الروحية مع الديناميات الاقتصادية والاجتماعية، وتلتقي فيها المبادرات التنموية مع التحديات السياسية والمناخية. بين قرارات شجاعة تحافظ على وحدة الصف، وخطط استراتيجية ترسخ أسس العدالة المجالية، وحراك اقتصادي يعزز الحضور الدولي، تواصل المملكة رسم مسارها بثبات نحو المستقبل، متسلحةً بإرادة جماعية ورؤية واضحة، ومتمسكةً بقيمها الراسخة وثوابتها الوطنية.



