Hot eventsأخبارالرئيسيةفي الصميم

شائعات”لوموند”وصحافتنا!

“من يملك الإعلام يستطيع كتابة التاريخ”، هذه خلاصة أطروحة مايكل شودسون (Micheal Schudson) في كتابه “قوة الأخبار” (The Power of News).

بقلم: د. محمد كريم بوخصاص 

ليس معنى ذلك أن كل ما ينشره الإعلام حقيقة، لكن الإعلام القوي الذي راكم رصيدا يُتلقى ما ينشره كحقيقة.

يقول شودسون: “أي قصة إخبارية هي بناء اجتماعي أيضا؛ أي إن القصة الإخبارية هي سرد للعالم الحقيقي، تماما كما أن الشائعة هي نوع آخر من سرد العالم الحقيقي..”.

نعم، يعتبر شودسون أن الشائعة أيضا سردٌ للعالم الحقيقي؛ أي ذاك الذي سيصبح حقيقة في ذهن القراء.

كيف ذلك؟

ببساطة، لأن “الحقيقة” التي يقدمها الإعلام ليست الواقع نفسه، بل نسخة منه، وأي نسخة هي تحويل وتحوير وتبسيط واختزال لحدث!

وهكذا، حين تأتي النسخة من وسيلة ذات نفوذ واسع، فإن حتى الشائعات تُعامل كحقائق، ما يفرض مواجهتها بالقوة نفسها.

ما فعلته “لوموند” انزلاق مهني إلى القعر: نصوص أقرب إلى الأمنيات منها إلى معلومات موثقة.

إن الحقيقة المهنية في ما كتبته “لوموند” هي أن “لوموند” تمارس الابتزاز، كما سقط فيه صحافيون ومؤسسات إعلامية فرنسية سابقا، لكن لا يكفي أن نؤمن بهذه الحقائق، بل يجب أن تحملها منصات ذات مصداقية.

وهنا السؤال المؤلم: هل يستطيع الإعلام المغربي مجابهة الشائعات بنفس القوة الرمزية؟ وهل لدينا اليوم صحيفة مسموعة ومؤثرة هنا -قبل أن نتحدث عن الخارج- ومستقلة حقا، تستطيع أن تُوازن كفة الخطاب عندما تحيد وسائل إعلامية أجنبية عن المهنية؟

للأسف لا.

إلى الأمس القريب، كانت لدينا عناوين مستقلة وذات مصداقية وأثر. لكن اليوم، يُدفع إلى الواجهة نوع من الصحافة مختص في نشر الشائعات والتشهير وتتبع الحياة الخاصة، ضدا في قانون الصحافة والمواثيق وكل شيء، بل ويبني استراتيجيته على تنزيل الذوق العام والبحث عن الإثارة السهلة.

بعض “النزيقين” و”العميقين” يعتبرون أن هذا النوع من الصحافة الذي تُلصق به صفة “الصحافة الصفراء” موجود في كل العالم.

صحيح، “الصحافة الصفراء” موجودة في كل مكان، لكنها لا تتصدر المشهد في البلدان المتقدمة، بل تُحاصر بأخلاقيات المهنة، وتبقى على الهامش. عندنا، تُقدم أحيانا من لدن بعض “الفهايمية” و”دوي المصلحة” باعتبارها “الأكثر نجاحا” لأنها “الأكثر انتشارا!”.

بِمَ سندافع عن المغرب ومؤسساته إن كان “السرد” الغالب عنا تصنعه منصات الإثارة أو “الصحافة الصفراء”؟

لقد سُمِع كثيرا أن دعم الصحافة القادم ضرورة للتموقع إقليميا وإفريقيا. صحيح هذه بشرى. لكن أي صحافة؟ إن الدعم الذي يُربّي سوق الشائعة ويذهب إلى هذا النوع من المحتوى سيرتدّ علينا اليوم وغدا وبعد غد.

رجوعا إلى ما بدأنا به: إن هذه الصحافة التي تتصدر المشهد اليوم هي التي تقدم سرديتنا للخارج، وتسهم في رسم نُسخ من الحقائق وبناء العوالم الذهنية التي نعيش فيها، بدل الإسهام في إنتاج صورة عن الواقع الحقيقي.

ولنأخذ مثالا: قبل أيام، تلذذت صحيفة بنشر ومتابعة الحياة الخاصة لسيدة تم توقيفها على خلفية اتهامها بالمشاركة في خيانة زوجية؛ فنشرت صورتها واسمها وفصلها قبل أن تُدان، ولحقها آخرون في “أكل لحمها” أيضا. كثيرون دافعوا عن هذه الصحيفة بكون المغاربة يحبون مثل هذه القصص.

معهم حق في جزء، الإنسان يميل إلى سماع “الفضائح”، لكن الجزء الآخر من الحق، أن المهمة الأخلاقية للإعلام ليست إرضاء أدنى الغرائز، بل الارتقاء بالذوق العام وتصحيح الأخطاء.

لنقلب الآية: تخيلوا لو أن التغطيات امتنعت عن نشر هوية هذه السيدة وصورتها والتعامل معها كبريئة إلى أن تثبت إدانتها بحكم قضائي، وتعاملت مع الموضوع كخبر عابر في أحسن الأحوال، أو كقضية خاصة لا تُناقَش إلا بقدر ما تمس المصلحة العامة: هل كان الذوق العام سيتعلم شيئا مختلفا؟ قطعا نعم.

قبل قرن، كتب والتر ليبمان في كتابه الشهير “الرأي العام” (Public Opinion) الصادر في 1922 أن الناس لا يستجيبون للعالم كما هو، بل للصورِ المتشكلة في رؤوسهم. وهذه الصور، اليوم، يصنعها الإعلام.

لذلك، يجب أن نعد العدة لمواجهة “شائعات لوموند” وغيرها مستقبلا بإعلام مهني مستقل، يُعيد بناء الصورة بالوقائع والوثائق وبنظافته ومهنيته.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button