أخبارالرئيسيةفي الصميم

زهير أصدور يكتب: الجنّة وملابس العيد

في نونبر من سنة 1970، كنت تلميذاً صغيراً في السنة الثانية ابتدائي. القسم ضاق بالتلاميذ، جدرانه عارية إلا من سبورة سوداء تلمع عليها آثار الطباشير، وأصواتنا البريئة تملأ المكان كأجراس صغيرة. كان البرد يطرق النوافذ بقوة، فيما نحن نستمع بشغف لدرس القرآن.

علّمنا المعلّم يومها سورة الإنسان، بصوت رخيم يقطر وقاراً، وكأن كلماته تُسقى من جدول غيبي لا ينضب.

قرأنا السورة جماعة، فانبسطت في مخيلتنا الطفولية صور مدهشة: جنات تجري من تحتها الأنهار، أرائك منصوبة على صفاء النعيم، وولدان مخلّدون يطوفون بكؤوس وأكواب.

كانت المشاهد أكبر من عقولنا الصغيرة، ومع ذلك استسلمنا لها كمن يرى حلماً ساطعاً. كنا نصدق كل شيء بصفاء يشبه الإيمان، لكننا نُخضعه أيضاً لخيال لم تتضح بعد حدوده.خرجنا من القسم، والهواء البارد يلسع وجوهنا ونحن نسير في الطريق الترابي المؤدي إلى البيوت.

لم نتحدث عن اللعب كما نفعل عادة، بل حملنا معنا هواجس النص القرآني. وكأننا صرنا فجأة فلاسفة صغار، نبحث عن الحقيقة في قضية الوجود والموت.

اقترح أحد الزملاء:“إذا كانت الجنة للمؤمنين، ونحن أطفال بلا خطيئة، فلماذا لا نطلب من الله أن يقبض أرواحنا الآن، ونذهب مباشرة إلى هناك؟”.

كان الاقتراح ساذجاً وعميقاً في آن واحد. بدا وكأننا أمام عقد افتراضي مع السماء، اتفاق سريع يختصر الطريق إلى النعيم الأبدي. جميعهم وافقوا بحماسة، كأنهم على وشك الانطلاق في رحلة مضمونة، إلا أنا.

التفتت نحوي العيون البريئة متسائلة:“لماذا ترفض؟”أجبت بعفوية مطلقة، ممزوجة بشيء من الطرافة:“لنؤجل هذا الأمر قليلاً… دعونا ننتظر حتى يمر عيد الأضحى.

أبي اشترى لي ملابس جديدة، أريد أن أرتديها وأفرح بها، وبعدها نفكر في موضوع الجنة.”ساد صمت قصير. لم يسخر أحد، ولم يعترض.

بدا الجواب مقنعاً بما يكفي، فأغلقنا النقاش، وعدنا نجري نحو بيوتنا، حيث روائح الخبز الساخن وأصوات الأمهات.

اليوم، حين أعود بذاكرتي إلى تلك اللحظة، أبتسم بمرارة حلوة. لم تكن ملابس العيد مجرد ثوب جديد، كانت رمزاً للحياة التي نعرفها، للحقيقة القريبة التي يمكن لمسها.

كان الفرح المضمون أصدق من الوعد البعيد. أما الجنة، بما حملته سورة الإنسان من أنهار وأكواب وأرائك، فقد بدت لي آنذاك صوراً حالمة، لكنها غير قادرة على أن تمنحني يقين البهجة كما يفعل قميص جديد أو حذاء لامع ينتظرني في صباح العيد.

اكتشفت دون وعي أن الإنسان، صغيراً كان أو كبيراً، يميل إلى ما يراه بعينيه، إلى ما يضمنه ويستطيع امتلاكه في لحظته، أكثر من ميله إلى المطلق الغائب.

ملابس العيد انتصرت على وعد الجنة، لا لأن قيمتها أعظم، بل لأن اليقين أقوى من الغيب في ميزان الطفولة.والآن، حين أسترجع القصة بعد مرور عقود، أراها تحمل درساً فلسفياً عميقاً: أن الجنة في وعينا البشري ليست مكاناً جاهزاً بقدر ما هي صورة تتشكل بخيالنا، ومعنى ينتظر من يمنحه الحياة.

أما الأشياء البسيطة التي نلمسها ونختبرها –كثوب عيد جديد– فهي تمنحنا طمأنينة لا يملكها الوعد، لأنها تُثبت للحواس أن الفرح ممكن، هنا والآن.

ربما هذا هو جوهر الإنسان: أن يظل ممزقاً بين يقينٍ صغيرٍ يلمسه في اللحظة، وحلمٍ مؤجل يعده بالغد. أن يبحث دائماً عن يقينٍ قريب، ولو كان بسيطاً، قبل أن يغامر في سماء الوعد البعيد، حيث لا يقين سوى ما يخلقه الإيمان والخيال.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button