أخبارالرئيسيةتقارير وملفات

الأستاذ عبد الصمد المرابط يتذكر صدمات سجن الاستعمار لوالده المجاهد المرابط

مابقي في ذاكرة طفل عايش أحداث 8 دجنبر 1952 عمي ابراهيم … وعمي حميدو ولحظة في أحضان والدي وهو بالسجن كيف دخلت فى حياتنا كلمات : السجن، الاستقلال ، السيجطي الاضراب، المقاومة اليمين.

احداث ثامن دجنبر 1952 ، احدى معلمات نضال الشعب المغربي الكبير ، وشهادة تارخية على نضجه ووعيه بقضيته الوطنية . كتبت عنها عدة ابحاث ودراسات تناولت وقائع الاحداث بتفاصيلها سواء ما تعلق منها بقرار الاضراب الاحتجاجي على اغتيال المناضل النقابي الكبير فرحات حشاد وما تخلله من احداث ووقائع بعضها بقي راسخا في ذاكرة اطفال عايشوها فاستكانت في مخيلتهم من بينهم، الاستاذ عبد الصمد المرابط ابن المرحوم المجاهد محمد المرابط الذي وصفته جريدة العلم في ذكرى وفاته باحد رواد الحركة الوطنية ورفيق الرعيل الاول من امثال الاستاذ بوشتى الجامعي والهاشمي الفيلالي واحمد بن ابراهيم السوسي وابراهيم الروداني، كما كان من اوائل النقابيين الذين اسسوا النقابة المغربية الى جانب الطيب بن بوعزة والنقابيين الأوائل .

بقلم: الاستاذ/عبدالصمد المرابط

عرفته البيضاء، مسيرا لخلايا حزب الاستقلال فكانت تحت اشرافه وتوجيهه اکثر جماعات درب السلطان والبلدية واحياء المنطقة كلها، تستنير بتعليماته وتتشيع بروحه الوطنية الصادقة واخلاصـه الذي لاحد له ، يعمل بتفان ونكران للذات وبصمت وهدوء.

فيما يلي جزء من بعض مابقي عالقا في ذاكرة المرابط الابن: كما نشرته “جريدة العلم”

كنت طفلا صغيرا ، لا تتعدى ذكرياتي بضع صور بسيطة ومبعثرة ، بقيت لصيقة بذاكرتي ووجداني، مثلا غياب شبه مطلق لوالدي طيلة مرحلة طفولتي ، كنت استيقظ صباحا دون ان اراه وانام في المساء وهو لا يزال خارج البيت، بحيث لم يكن برفقتنا الا في عطلة نهاية الاسبوع، ولبضع ساعات فقط، وحينما كنا نساله يجيبنا : الشغل ، الشغل الشغل… وكنت اتساءل مع نفسي هل من الضرورة الحتمية ان يشتغل رب الاسرة ليل نهار لتسديد حاجيات البيت ؟ ، لقد كان والدي في طفولتي طيف خيال كما تقول ام كلثوم . لازلت اذكر يوم اعتقاله. كان والدي في نظر ارباب الشركة ( معمل التبغ).

مشاغبا وكانت الادارة لا ترغب في الاحتفاظ به في صفوف العمال، وبايعاز من سلطة الحماية قررت نفيه الى طنجة، وكنا قد جمعنا متاع البيت في صناديق ضخمة استعدادا للرحيل، لا تنقصنا الا جوازات السفر ، وفى تلك الليلة المشؤومة سمعنا ونحن الصغار نائمون صياحا من كل جانب ، هرعنا صوب الضجيج في رأس الدرب، فإذا أبى بلباس النوم مكبل اليدين، يصارع مجموعة من الغرباء وهم يدخلونه بالقوة داخل سيارة ” الجيب” يصيح احــد الجيران: ” البوليس” الداو المرابط ” … تحاول جدتي التعلق بمؤخرة ” الجيب ” التي تنطلق بسرعة جنونية، ويضرب احد رجال البوليس برجله صدرها فتتدحرج وتجر على اثر سقوطها عاهة في عمودها الفقري طيلة حياتها . بينما اخي الاكبر يخرج وهو في اوج سن المراهقة يجري ويصيح في الدرب ” ابا .. ابا … ” فيصاب بمرض نفسي لزمه الى نهاية حياته.

اما الذكرى الثانية، هي حين زيارتي لوالدي في السجن بعد ستة أشهر من اختفائه : كنت اصغر الزائرين ، كلهم نساء واطفال محملون بالمؤن ومحاطون بالحراس، ندخل مكانا غريبـا شـبــاكــان من حديد يمتدان من الارض الى السقف يفصلهما ممر بداخله حارس سجني يغدو ويعود من ركن الى اخر ، مكان لا تدخله الشمس، مصباحان صغيران يطلقان شعاعا باهتا اتيا من اعلى السقف البعيد ، وفجاة نسمع بابا حديديا ينفتح من الجهة الاخرى، يخرج من الباب غفير من البشر، تتسرب الاعناق من وراء القضبان ، صياح من كل جانب.

تنادي امي بجنبي ” راه راه عامل اللحية” اما جدتي فتصرخ – اولدي ها احنا … ” يتسلق اخي الشباك الحديدي بقوة وانفعال شديدين وكانه يريد الارتماء في احضانه وهو يصرخ ابا.. ابا ابا علاش عملتي اللحية؟ يروي لنا والدي : إنه كان مضطرا للامساك عن حلاقة وجهه بسبب أثار الجراح التي خلفتها اللكمات والضربات التي كان يتلقاها بواسطة رؤوس البنادق طيلة فترة الاستنطاق في الكوميساريات ….. يملا المكان خليط من الضجيج والصياح، حوارات مرموزة واصوات متداخلة.

تطلب والدتي من الحارس ، وهو فرنسي يتكلم الدارجة بان يسمح لي بالدخول من النافذتين الصغيرتين في اسفل الجدران لتقبيل ابي ، تضعف عاطفة الحارس ويفتح النافذة الموجودة في جهة السجناء فياخذني والدي ويضمني اليه وعيناه تبرقان دمعا ، اقبل لحيته وارتمي بين احضانه والسعادة تغمرني ويخيل الي من فرط سعادتي انني سأصاحبه من حيث جاء، لكن الزيارة تنتهي والتحق باهلي.

الذكرى الأخرى وليست الأخيرة التي، هي أننا كنا نلعب بباب الدار ، فاذا بسيارتين سودوتان تقفان. الذكرى الاخرى وليست الاخيرة ، هي اننا كنا بباب المنزل احداهما لعمي ابراهيم والثانية لعمي احميدو ، يرافقهما ثلاثة او اربعة رجال يحملون الون، ويجر عمي ابراهيم احدى رجليه متكئا على عصاه والسجارة لاتفارق شفتيه يناديني من بين اترابي: “أجى اولدي. اطلع قل لهم عمي ابراهيم جاء…. وكذلك الشان بالنسبة لعمي احميدو ذو الشارب التركي .

وقد علمت فيما بعد ان هؤلاء الاشخاص كلهم مقاومون كبار على راسهم المقاوم الكبير ابراهيم الروداني والمقاوم المعروف احــمــيــدو الوطني هذه بعض ذكــريــات الـصـغـر امـا عن طيات تلك الصفحات المجيدة من الكفاح الوطني فقد روى لي والدي بعضا منها وخاصة منها ميلاد العمل الوطني في احدى جهات الدار البيضاء التي كان لها صيت وتاثير كـبـيـرين على مسار الحركة الوطنية ، يقول والدي في 1933 انتقلنا نحن مجموعة من العمال يراقبون آلات التبغ من طنجة الى الدار البيضاء بسبب نقل شركة التبغ وتوسيع نشاطها الصناعي والتجاري فوجدنا عمال فرنسين يعملون بجانبنا كانوا أكثر تقنية، قليلي العدد، كانوا يحدثونــنــا عن شؤون النقابة فيطلبون أن نجتمع معهم.

كانت فرصة للتعرف على هذا التنظيم الاجنبي . وفرصة للتعرف على بعضنا نحن المغاربة، وتبادل الراي في اهتماماتنا ووضعيتنا، خاصة وان الادارة في بداية الامر لم تكن تعاكسنا مادام الامر يتعلق بوضعية العمال وخاصة ان النقابيين الفرنسيين كانوا يفتحون لنا مكاتبهم في مقر النقابة بدعوى الرفاقة . وبالرغم من اتجاهها المتطرف ـ نقابة س ج .ت حليفة الحزب الشيوعي – كانت الاجتماعات الدورية تتيح لنا فرص التكوين النقابي، والعمل الجماعي وتبادل الراي رغم وعينا باستغلالهم لنا كعمال من حيث العدد.

واقتصر هنا على ثلاثة احداث:

  • الحدث الاول: شعور الادارة بالوجود الفعال لنقابة “س .ج .ت” في صفوف العمال وخوفها من “تسييسهم” الشيء الذي دفعها الى استقدام بعثة نقابية اخرى وهي نقابة ” القوة العاملة فطلب منهم الاجتماع بهم في ملعب لكرة القدم، وحضرت النقابتان، فاخذ كل منهما يتنافس في ابراز خصال وممزات نقابته، يؤاخذون قادة نقابة القوة العاملة على ان نقابة “س .ج .ت” قنطرة للشيوعية بينما تقول “س.ج.م” أن القوة العاملة اتت بالملايين من الفرنكات لشراء ضمائر العمال المغاربة … تدخل ” الرحوم محمد المرابط باسم العمال وكانوا انذاك بعدون باكثر من خمسمائة من مختلف جهات المغرب وشكرهم على استضافتهم للعمال المغاربة وتشجيعهم للانضمام فى صفوف هذه النقابات وطالب بتكوين مكتب مستقل لهم وتاسيس جبهة واحدة فامتنعوا .
  • هذا التجمع كان له تأثير كبير على مسيرة العمل النقابي فيما بعد، لقد قرات في هذا الصدد كتاب ” ميلاد النقابة العمالية الحرة فى المغرب ” للسيد الطيب بن بوعزة هذا الكتاب في حد ذاته عمل جاد يستحق التنويه الا انه اغفل ذكر بعض الاحداث التي كانت من بينها تأسيس “دار ابراهيم الروداني كمقرا للاجتماعات المتواصلة لقادة حزب الاستقلال واذكر على سبيل المثال حدثين هامين وردا في كتاب السيد بن بوعزة حين يذكر في احداهما ما وقع في القنيطرة سنة 1949 او 1950 فيقول : وتكلم المحجوب بن الصديق في القنيطرة ” هذا كل ما يروي عن القنيطرة والواقع وكما روى لي والــــــدي كان اللقاء في القنيطرة في احدى الليالي بمنزل المدعو: “خزيوة” وهو مسؤول انذاك على القطاع الطلابي والتعليم، وكان الاجتماع يضم المحجوب بن الصديق ومـحـمـد المرابط وفرنسيين من س.ج .ت وكان المقصود منه مطالبة العمال بالانضمام في نقابة س.ج.ت وتنظيم مكاتب لهم تابعة للنقابة الفرنسية. وفى الغد نظم تجمع كبير ولهذا الغرض تم هناك تنظيم تجمع كبير خطب فيه كل من المحجوب بن الصديق محمد المرابط… وعند عودتهما على متن القطار نزل المحجوب بالرباط، فتم اعتقاله الخ ………
  • الحدث الثاني: وعن 8 دجنبر 1952 اروي عن والدي ان العمل النقابي كان وسيلة لتـحـسـيـس العمال بالعمل السياسي وذالك بتاطير وتنسيق مع قادة الـحـركــة الوطنية، والنتيجة انه بعد اعتقال هؤلاء في احداث فرحات حشاد كان العمال المناضلون في مستوى النضج السياسي ، فحملوا السلاح لـمـقــاومــة المستعمر . اذ بعد التنظيم النقابي على مستوى المعمل والاجتماع في مقر النقابة كان العمال المغاربة ينخرطون في الحزب وتبدا الاجتماعات السرية في المنازل، فعلى سبيل المثال دار احمد بناني بدرب كــلــوطــي بالدار البيضاء كانت بمتابة دار ابي سفيان من دخلها فهو استقلالي هناك كان يؤدي اليمين على يد المرحوم بوشتى الجامعي، ودار ابراهيم الروداني كانت مقرا يجتمع فيه قادة ومسيرو حزب الاستقلال يرسمون للعمل الوطني على جميع المستويات ، المستوى النقابي والسياسي الذي امتد فيما بعد الى العمل المسلح .
  • وكذلك الشان بالنسبة لبعض المحلات التي جعلها اصحـابـهـا مـقـرا لتنظيم وتاطير الجماعات التابعة للحزب ، واذكر على سبيل المثال احدى الدور الزياني ” هذه الدار تخرجت منها جماعات استقلالية الموجودة بدرب الفقراء ( الفداء من بينها دار الكبير ، وأفرزت مقاومين افذاذ كالفقيد امحمد السرجان وعبد الله الحداوي ومحمد الحداوي والتهامي ” البناي . وغيرهم ….
  • لقد كانت هذه الدار مسرحا لاحداث دامية حين هاجمت فرقة البوليس الفرنسي بعض المقاومين الذين كانوا بداخلها ، وذلك اثر وشاية من طرف احذ اذناب المستعمر هذه بعض جوانب الكفاح الوطني لم اعشها ولم اقرئها في الكتب بل اخذتها من والدي الذي عاش بعضها .
  • الحدث الثالث: فحدث 8 دجنبر 1952 توحي بنضج كبير كان يتحلى به الشعب المغربي انذاك وهو نتيجة تنظيم وكفاح متواصل قاده حزب الاستقلال وتزعمه رمز البلاد جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله تراه وكل ما اتمناه هو ان تخلد هذه الذكرى كل سنة على غرار الاحداث الوطنية التي تخلدها بلادنا.
  • “جريدة العلم” – عدد خاص في الذكرى 40 لحوادث 8 دجنبر 1952

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button