حوار الأديان بين وحدة الرسالة واختلاف الشرائع

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي
تتعالى في زماننا أصوات كثيرة تدعو إلى “حوار الأديان” من أجل بناء جسور التواصل بين الشعوب، وتفادي صدام الحضارات، وترسيخ قيم السلم والتعايش. غير أنّ هذا المصطلح – على وجاهته السياسية والإنسانية – يثير في أعماق الفكر تساؤلاً جوهرياً: هل نحن أمام أديان متباينة حقّاً، أم أمام دين واحد اتصل بالإنسان عبر شرائع متعددة ونحل مختلفة؟
ونحدد للإجابة على السؤال العناصر الآتية
أولاً: وحدة الدين وتعدد الشرائع
يقرر القرآن الكريم أنّ أصل الرسالات واحد، وأن جوهر الدين هو التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد. قال تعالى:
“شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه” [1].
وقد ذهب عدد من المفكرين، مثل محمد عبد الله دراز، إلى أنّ الرسالات السماوية تلتقي في أصولها الكبرى: التوحيد، والإيمان بالغيب، والقيم الأخلاقية، بينما اختلفت الشرائع بحسب الزمان والمكان، مصداقاً لقوله تعالى:
“لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم” [2].
ثانياً: إقرار الأنبياء بالإسلام
القرآن الكريم يسجل على ألسنة الأنبياء والرسل إقرارهم بأنهم مسلمون لله، مما يؤكد أن الإسلام هو الاسم الجامع لكل الرسالات:
إبراهيم عليه السلام: “إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين” [3].
يعقوب وأبناؤه: “ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك… ونحن له مسلمون” [4].
موسى عليه السلام: “إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين” [5].
يوسف عليه السلام: “توفني مسلماً وألحقني بالصالحين” [6].
نوح عليه السلام: “وأمرت أن أكون من المسلمين” [7].
الحواريون مع عيسى: “آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون” [8].
وقد رأى محمد إقبال أن هذه الشواهد تعكس وحدة التجربة الروحية للإنسان، وأن الإسلام جمع خلاصتها في صورة كلية متكاملة.
ثالثاً: التحريف وظهور النحل
التاريخ يخبرنا أنّ بعض الرسالات تعرّضت للتحريف والتبديل عبر الأهواء والسلطة. قال تعالى:
“يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به” [9].
فنُسِبت إلى الأنبياء عقائد ما أنزل الله بها من سلطان، وانقسم الناس إلى نحل وملل، حتى بدت كأنها أديان متصارعة. فجاء الإسلام خاتماً جامعاً، يرد البشرية إلى الصراط المستقيم، قال تعالى:
“إن الدين عند الله الإسلام” [10]،
“ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين” [11].
رابعاً: الحوار في ضوء هذه الرؤية
حينما نتحدث عن “حوار الأديان” ينبغي أن نعي أنّه ليس حواراً بين آلهة متعددة أو حقائق متناقضة، بل هو في حقيقته حوار بين أتباع الشرائع المختلفة، من أجل استحضار المشترك الإنساني والأخلاقي الذي هو من جوهر الوحي.
وقد قدّم القرآن قاعدة ذهبية في هذا السياق:
“قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً” [12].
ويؤكد مفكرون معاصرون، مثل يوسف القرضاوي وطه عبد الرحمن، أن الحوار ينبغي أن يرتكز على القيم الأخلاقية المشتركة، لا على المساومة العقدية، وأنه وسيلة للتعارف والتعاون لا غاية في ذاته. كما يضيف مالك بن نبي أن التلاقي الحضاري لا يكون إلا باستحضار “القيم الروحية” التي تعطي للحوار عمقه الإنساني.
خامساً: نظرة ختامية
المفكر حين يقرأ الواقع من خلال الوحي، يدرك أن الأديان – بمعنى الرسالات السماوية – لم تكن إلا نداءً واحداً متكرراً عبر التاريخ: نداء التوحيد. أما الأديان بصورتها المؤسسية اليوم فهي نِحل وشرائع متفرقة، تتفاوت في قربها أو بعدها عن الأصل.
من هنا، فإنّ حوار الأديان لا يعني إذابة الفوارق ولا مساواة المطلق بالنسبي، بل هو سعي إلى التقارب الإنساني على أساس الاعتراف بوحدة الأصل واحترام التعدد في الفروع، تحت سقف قوله تعالى:
“واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” [13].
وبذلك يتضح أنّ الإسلام، باعتباره الخاتم، يجمع بين جوهر الرسالات السابقة، ويوفر الإطار الأوسع لحوار حضاري يرتكز على الحق والعدل والسلام.
الهوامش القرآنية
[1] سورة الشورى، الآية 13.[2] سورة المائدة، الآية 48.
[3] سورة البقرة، الآية 131.
[4] سورة البقرة، الآية 133.
[5] سورة يونس، الآية 84.
[6] سورة يوسف، الآية 101.
[7] سورة يونس، الآية 72.
[8] سورة آل عمران، الآية 52.
[9] سورة المائدة، الآية 13.
[10] سورة آل عمران، الآية 19.
[11] سورة آل عمران، الآية 85.
[12] سورة آل عمران، الآية 64.
[13] سورة آل عمران، الآية 103.
مراجع فكرية
دراز، محمد عبد الله: الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان. القاهرة: دار القلم، 1993.
إقبال، محمد: تجديد التفكير الديني في الإسلام. ترجمة عباس محمود. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1955.
القرضاوي، يوسف: الإسلام والآخر. القاهرة: مكتبة وهبة، 2007.
طه عبد الرحمن: سؤال الأخلاق. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000.
بن نبي، مالك: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي. بيروت: دار الفكر، 1970.



