
نزولا عند طلب الزميل والصديق الأستاذ مجمد بوخزار، أود أن أدلو بدلوي في تناول قضية المعارضة الراديكالية التي كانت تنشط إنطلاقا من الجزائر بهدف قلب نظام الحكم . وأني أتحدث هنا كصحفي لا كمؤرخ لما يتطلبه التقديم التاريخي للأحداث من البحث والإستقصاء والتوفر على المصادر الموثوقة.
وللحديث عن هذه المعارضة أشير إلى أن الاتحاديين الديموقراطيين لم يتخلصوا منها ومن مضاعفاتها إلا بحلول سنة 1975، وفي المؤتمر الذي شهد تغيير إسم الإتحاد الوطني إلى الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية .

وكما كانت هذه المعارضة تقلق النظام ، فقد كان كثير من القادة الاتحاديين ينزعجون منها ، لما كانت تسببه من متاعب للحزب الذي يحظى بتأييد شعبي لا يميل إلى العنف في معارضة سياسة النظام الاجتماعية .
والحديث عن هذه الحركة الثورية لاينفصل عن ذكر زعيمها المرحوم محمد البصري المشهور بالفقيه البصري ، الذي كثيرا ما اقترن ذكر إسمه بذكر رفيقه في النضال الطويل المجاهد المرحوم عبد الرحمان اليوسفي ، حتى وهو لم يكن يتقاسم معه توجهه الراديكالي ، وظل متحفظامن تحركه إنطلاقا من الجزائر ، ولكنه لم يسبق أن ندد بنشاط رفيقه ضد النظام ، وكأن ذلك كان بمثابة توازن في التعامل مع الحكم وعلى عكس الفقيه محمد البصري الذي كان محل جدل في المحافل السياسية ، فإن المرحوم عبدالرحمن اليوسفي ظل محل تقدير من طرف مختلف فئات الطيف السياسي المغربي ، ويجمع كثير من الناس على اعتباره من الرجال الذين يشكلون ضمير الأمة .
عندما اختارت المعارضة الراديكالية اللاجئة في الجزائر الإخلاص للوطن أمام الإغراءات :
الرهان الذي سقط بيد الرئيس هواري بومدين
وقد ظل اليوسفي يحظى بتقدير الملك الراحل الحسن الثاني حتى في أحلك فترات الاصطدام مع المعارضة الإتحادية ومنذ نشأتها ، ولنا عدة دلائل على ذلك. ومما ضاعف ذلك التقدير كون اليوسفي لم يتعامل خلال لجوئه الإختياري جارج الوطن مع النظام الجزائري الذي انبثق عن انقلاب يونيو 1965. ولقد كان المرحوم اليوسفي يدرك بحدسه وبصيرته ما يضمره هواري بومدين للمغرب وحتى قبل نشوء نزاع الصحراء وبروزه للعلن سنة 1975 ، وقد فقد بومدين الاعتبار في نظر المرحوم اليوسفي لكونه خان الثقة التي وضعها فيه المرحوم الرئيس أحمد بنبلة رفيقه في الجكام ، لا في النضال والجهاد ، إذ لم يكن بومدين يعتبر من رفقاء المجاهدين الذين قادوا الثورتين الجزائرية والمغربية وفي مقدمتهم بنبلة واليوسفي.
وترجع بي الذاكرة لتلك الفترة الحالكة التي تعاقب عليها حادث الإطاحة بالرئيس أحمد بنبلة واختطاف واغتيال الزعيم الاتحادي المرحوم المهدي بنبركة .

ففي صبيحة يوم 19 يونيو 1965 لذي تلقينا فيه خبر الإنقلاب العسكري الذي حدث بالجزائر ،ونجن في غمرة العمل بمكاتب جريدة (التحرير) ، لاحظت الإنزعاج والقلق ، بل والغضب الذي لم يستطع المرحوم اليوسفي إخفاءه ، وهو الرجل الذي ليس من السهل أن تفقده الأحداث مهما كانت قساوتها أعصابه وتوازنه.
وأنا اتحدث معه حول ذلك الانقلاب ومضاعفاته ،فهمت من حديثه ما يوحي بأن حرب الرمال في أكتوبر 1963 ، كانت متعمدة تمهيدا للإطاحة ببنبلة ، إذ ربما كان بومدين وهو وزير الدفاع يسعى ماوراء نشوبها الحصول على تزويد الجيش الجزائري بالسلاح كي يتم استعماله في الانقلاب العسكري ، وهذا ما حصل بالفعل . وهم ما استنتجته ، ولا أدعي أن المرحوم اليوسفي صرح لي بذلك
إن ما قام به هواري بومدين يوم 19 يونيو 1965 جعل المرحوم اليوسفي يفقد كل ثقة بهذا الرجل ، لكنه كان على ما أظن قد نصح رفيقه في النضال المرحوم الفقيه البصري بالإبتعاد عن التعامل مع رجال نظام بومدين
وهنا يمكن أن نتساءل : هل كان هناك أختيار آخر أمام الثوريين المغاربة اللاجئين بالجزائر ، وهم يواجهون النظام المغربي الذي ضاعف من محاربة المعارضة ؟ وبعد أن تجرأ بعض رجاله على اغتيال الزعيم الإتحادي المهدي بنبركة أحد أبرز عناصر المعارضة الديموقراطية
ويمكن للمرء أن يتساءل أيضا : هل ترك هذا الاغتيال الفرصة أمام المرحوم اليوسفي لينصح رفيقه الفقيه البصري بالتخلي عن مخططه الموجه ضد النظام ومغادرة الجزاير هو ورفقاؤه الذين هاجروا فرارا من المتابعات ومن قساوة رجال النظام ؟.
يحتاج المرء إلى مراجعة مذكرات الفاعلين السياسيين وما سجله المعارضون الثوريون المغاربة لعلهم يعثرون على الخيوط التي ترشدهم إلى معرفة حقيقة ما جرى خلال فترة استمرت أكثر من عقدين من الزمن.
وتكشف مذكرات المرحوم اليوسفي عن تجاهل ذي مغزى لذكر أسم هواري بومدين في أي سرد له للأحداث التي لها صلة بالجزائر سواء من قريب أو منبعيد ، رغم أن بومدين ملأ الدنيا بما انتهجه من سياسات مشبوهة سواء على الصعيد الجزائري أو الإقليمي أو الدولي.
وعلى العكس من ذلك فقد أشاد بالزعيم الجزائري أحمد بنبلة الذي خبره خلال النضال المشترك وصاحبه سجينا ورئيسا لبلده .
لقد كشفت الأحداث ان الهدف الذي كان هواري بومدين يسعى إلى تحقيقه من وراء السماح للمعارضة الراديكالية المغربية بزعامة المرحوم الفقيه البصري ،يتمثل أساسا في أن يتاح للنظام الجزائري تحقيق ما يضمره للنظام الملكي وهو يظن أن في وسعه أن يتعامل معه بدهاء المناور والمتآمر.
ولم يكن بومدين يدرك أن الملك الحسن الثاني كان رحمه الله أكثردهاء، بحيث لا تخفى عنه أهداف بومدين ،حتى وهو يبدي استعداد الجزائر للتفاهم الذي أدى فعلا إلى اتفاقية إفران سنة 1969 ، ثم إلى اتفاقية الرباط سنة 1972 التي كان من المفروض أن تنهي الصراع الذي خلقه مشكل الحدود ، على أساس الإستغلال المشترك لمناجم الحديد بغارة جبيلات الواقعة بمنطقة تندوف.
وكان من المفروض أيضا أن يؤدي ذلك التفاهم التاريخي الذي تعكسه الاتفاقيتان إلى إنهاء الوجود المسلح للمعارضة الراديكالية ، لكن الجزائر ظلت تحتضن جماعة الفقيه محمد البصري ، ولم تقم بأي مبادرة تنهي نشاط هذه الجماعة.
والملاحظ أنه لم تمر سوى ثمانية أشهر على اتفاقية الرباط لسنة 1972 ، حتى وقعت أحداث مولاي بوعزة الخطيرة التي انطلقت شرارتها من الجزائر من حيث التحق بها مسلحون كان هدفهم إندلاع الثورة ضد النظام ، وبمساندة خلايا مسلحة في بعض مدن المدن المغربية يقودها عمر دهكون ذلك الشاب الداهية كما بدا للملاحظين في محاكمة المتورطين في أحداث مارس 1973.
وللملاحظ أن يتساءل : ماهو الهدف من استمرارالجزائر في احتضان جماعة الفقيه محمد البصري ، ونحن نرى بومدين ورجاله يتعاملون مع المغرب بوجهين ، فمن جهة يتفاهمون مع النظام على إنهاء الصراع حول نزاع الحدود ، ومن جهة أخرى يحتضنون حركة راديكالية مغربية اختارت النضال المسلح ؟ إن التفسير المفترض ، إن لم يكن المؤكد ، هو أن هدف بومدين الأساسي كان إضعاف المغرب حتى لا يكون قادرا على خوض معركة تحرير الصحراء التي أصبحت تتجه لها أنظار الجزائريين لتوسيع نفوذهم وفرض هيمنتهم على المنطقة المغاربية ،كماأدرك ذلك رجل الدولة الأمريكي الداهية هنري كيسنغير، وصارح به الرئيس هواري بومدين في أكتوبر1974 ، وحتى قبل أن تدخل الجزائر في نزاع مع المغرب حول الصحراء وتكشف عن نواياها المبيتة
إن الذين يعرفون الفقيه محمد البصري ودوره في المعركة التي خاضها جيش التحرير سنة 1958 لتحرير الصحراء ، ويدركون ما كان يتمتع به من ذكاء ودهاء ، كانوا متأكدين بأنه لا يجهل أهداف ومرامي هواري بومدين ، لكن ما العمل ؟ وكل الأبواب كانت مغلقة في وجه حركته ، حتى ولو كان هو شخصيا يحظى بالتقدير والترحاب من لدن الأنظمة الإشتراكية في الشرق العربي وغيره وبتقدير زعماء الحركات النضالية العربية .
وعندما حز الأمر وحلت ساعة الحقيقة ، وفي فترة حاسمة ، سقط الرهان الذي علقه الرئيس هواري بومدين على تلك المعارضة الراديكالية المغربية وعلى زعيمها ، وفوجئ بامتناعها عن مساندته في مواجهة المغرب وفي معارضة ما اتخذه الملك الحسن الثاني من قرار تنظيم المسيرة الخضراء لتحرير الصحراء ٠.
ففي تلك الفترة الحاسمة أستدعى هواري بومدين الفقيه البصرى ورفاقه ليحدثهم في الأمر ، ولم يتردد في الكشف عن نواياه الحقيقية وقال لهم بصراحة : ( اما أنا أو الحسن الثاني ) ، ولم يتلق الجواب الذي ربما كان يأمل في الحصول عليه وتخيله ، ثم عرض على المرحوم محمد باهي حرمه رئاسة الحمهورية الصحراوية الوهمية التي كان بصدد الإعلان عنها ، علما منه أن هذا الرفيق للفقيه البصري ينحدر من الصحراء الموريتانية وأنه ذو مؤهلات سياسية وثقافية تجعل منه أفضل من يخدم الأهداف الجزائرية. وقد عرف المرحوم باهي كيف يتخلص من هذا العرض المغري الذي انجر اليه بعض الموريتانيين كالمدعو بابا مسكي الذي أسند إليه الجزائريون منصب وزير خرجية جمهورية الوهم.
ولقد سارع المرحوم باهي إلى مغادرة الجزائر للاسثقرار في باريس ،ومنها كتب مقالته المشهورة بعنوان ( متى كان لينين خادما عند فرنكو؟ ) .
والواقع ان المعارضة الراديكالية المغربية قد تعرضت إنذاك لامتحان عسير ،عرفت كيف تواجهه وتتخلص من تبعاته.
وقد أشيع هنا في المغرب آنذاك أن أفرادها اتصلوا بالسفارة المغربية في الجزائر لمحاولة الحصول على جوازات تتيح لهم مغادرة الجزائر ، حتى وإن لم يكونوا قد تعرضوا لإية مضايقة ، وكما تم التأكد منه من بعد .
لقد احدث الموقف الذي اتخذه المرحوم الفقيه محمد البصري ورفاقه صدى طيبا في مختلف الأوساط السياسية وحتى الرسمية ، وضاعف من تقدير المرحوم عبد الرحمان اليوسفي لرفيقه السابق في المقاومةالمغربية وفي النضال الديموقراطي بعد الإستقلال ،وظل يسعى لكي يحظى الفقيه البصري بالاستقبال الذي يرد له الإعتبار ، ويعفيه من تبعات الإحكام الصادرة في حقه نتيجة نشاطه الذي ذهب الى حد الدفع بمسلحين لمحاولة إطلاق شرارة التمرد ضد النظام.
وكذاك كان الامر إذ عاد الفقيه البصري إلى المغرب سنة 1996 بعد أن تم وضع حد لأي نشاط سياسي مشبوه ضد النظام. واني لأتذكر أنه في إحدى المناسبات أشاد الفقيه محمد البصري بقيادة جلالة الملك محمد السادس المتبصرة مشبها إياه بجده المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه.
وهكذا تكون كل الرهانات التي اعتمدها الرئيس هواري بومدين لإيجاد سند له من بين الشخصيات أو القادة المغاربة قد سقطت ،وتحقق الإجماع المغربي حول جلالة الملك الحسن الثاني في المعركة الفاصلة لإسترجاع الصحراء ، ثم في تحصينها والشروع في تشييدها وتعميرها والنهوض بأهلها.
ولقد تجدد الأجماع المغربي وتعزز حول قيادة جلالة الملك محمد السادس ، واستمرت المسيرة المظفرة الي جعلت المغرب ينهض بالواجب الذي تفرضه حماية الوطن وتحصين وحدته الترابية والوطنية .



