التربية المفقودة والشارع الحاكم: أطفال اليوم بين الإهمال والانفجار

في الآونة الأخيرة، أصبحنا نشهد ظواهر سلوكية غير مرغوب فيها من قبل بعض الأطفال في المجتمع، حيث تتزايد الحوادث التي يظهر فيها هؤلاء الأطفال، سواء في الشوارع أو الأماكن العامة، وهم يتصرفون بشكل عدواني وغير لائق. هذا السلوك الذي يثير القلق ويتسبب في فوضى اجتماعية، غالباً ما يظهر عند الأطفال المراهقين، الذين لم يتجاوزوا بعد سن الخامسة عشرة، وتصبح تصرفاتهم غير متوافقة مع قيم المجتمع وتعاليمه. هذه الظاهرة لا تقتصر على منطقة معينة، بل تتواجد في أحياء متعددة مثل حي المسيرة في مدينة فاس، حيث لا تكاد تمر يومًا دون أن نسمع عن حادثة مشابهة.
قبل كتابة هذه الأسطر، كانت حادثة لفتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها، وقد تسببت في فوضى عارمة في الشارع، حيث تطاولت بكلام نابي ضد امرأة تكبرها سناً، وتوعدتها بتهديدات واضحة، مما يعكس تدهورًا في قيم الاحترام والتعايش بين الأفراد في المجتمع. فما الذي يجعل أطفالًا في سن مبكرة يتصرفون بهذه الطريقة؟ هل هو تأثير الهجرة القروية، أم أن هناك عوامل أخرى تؤثر على سلوكهم؟
● الهجرة القروية: تأثير العوامل الاجتماعية
الهجرة القروية تعد من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى العديد من التغيرات في سلوك الأطفال في المناطق الحضرية. فالكثير من الأسر القادمة من القرى إلى المدن الكبرى، مثل فاس، تعيش في بيئات غير مستقرة اقتصاديًا واجتماعيًا. الأطفال الذين يهاجرون مع أسرهم، يواجهون تحديات كبيرة، منها التكيف مع الحياة الحضرية واكتساب المهارات الاجتماعية التي قد يفتقرون إليها. في القرى، كانت هناك علاقات أكثر قربًا وتماسكًا بين أفراد المجتمع، حيث كان الجميع يعرف بعضهم البعض، وكانوا يراقبون سلوك الأطفال ويهتمون بتربيتهم. أما في المدينة، فتكثر التحديات الاجتماعية، مثل الإغراءات السلبية التي يواجهها الأطفال في الشوارع، أو الانشغال الزائد للأهالي عن مراقبة أبنائهم بسبب ضغوط الحياة.
● الأمية والجهل: أحد الأسباب الرئيسية للتربية القاصرة
من الأسباب الأخرى التي يمكن أن تساهم في هذه السلوكيات هي الأمية والجهل، حيث إن هناك نسبة كبيرة من الآباء والأمهات الذين لا يمتلكون المعرفة الكافية بتربية أبنائهم. هذه الأمية الثقافية والتربوية تجعل البعض منهم عاجزين عن توفير الأسس السليمة لتربية أطفالهم. وبالتالي، يجد الأطفال أنفسهم في بيئات غير مهيأة، لا تضمن لهم التنشئة السليمة أو التربية الأخلاقية التي تضمن لهم احترام الآخرين.
تأثير هذه الأمية لا يقتصر على مستوى التعليم فقط، بل يمتد ليشمل فهم قيم الاحترام، والأخلاق، والعلاقات الإنسانية. ففي حالة الأبوين غير الملمين بأسس التربية السليمة، قد يكونون غير قادرين على التواصل بشكل صحيح مع أبنائهم أو توجيههم نحو السلوك الحسن. فالتربية السليمة تحتاج إلى جهد مستمر ومتابعة من الأهل لتوجيه الأبناء إلى السلوك الصحيح، وهذا ما نفتقده في الكثير من الحالات.
● غياب الرقابة الأبوية: هل هو السبب الرئيس؟
غياب الرقابة الأبوية والمشاعر السلبية التي ترافق الأسر يمكن أن تكون أحد الأسباب الأساسية التي تساهم في نمو هذه السلوكيات. في بعض الأسر، وخاصة الأسر التي تمر بضغوط اقتصادية واجتماعية، يكون الأهل غير قادرين على تقديم الدعم العاطفي والنفسي لأبنائهم. هذا الانشغال الدائم في تأمين لقمة العيش وتلبية احتياجات الحياة اليومية يجعل من الصعب على الأهل أن يخصصوا وقتًا كافيًا لمتابعة سلوك أبنائهم.
في ظل غياب الرقابة، يختار الأطفال الانخراط في سلوكيات غير لائقة للحصول على انتباه، سواء من خلال التصرفات العدوانية أو اللجوء إلى استخدام الكلمات النابية أو التهديدات. كما أنهم يتأثرون بشكل كبير بما يشاهدونه في وسائل الإعلام، أو من خلال تجمعاتهم مع أقرانهم الذين قد يتبنون سلوكيات غير لائقة.
● التربية السليمة وحلول للقضاء على السلوكيات السلبية
من أجل الحد من هذه السلوكيات التي باتت تزعج المجتمع، يجب أن نتوجه إلى التوعية والتثقيف في جوانب عديدة، على رأسها:
1. التوعية الأسرية: يجب أن يتم توفير برامج تعليمية للأسر حول كيفية تربية أبنائهم بشكل سليم. هذه البرامج يجب أن تكون شاملة، وتشمل تربية الأطفال على القيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر.
2. تحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي: من خلال تحسين أوضاع الأسر، خصوصًا الأسر المهاجرة من القرى، يمكننا أن نخفف من الضغوط التي يتعرض لها الأطفال وأسرهم. إن توفير بيئة مستقرة اجتماعيًا واقتصاديًا يسهم بشكل كبير في استقرار سلوك الأطفال.
3. دور المدرسة في التربية: يجب أن تلعب المدارس دورًا أكبر في تثقيف الأطفال وتوجيههم نحو السلوكيات الصحيحة. إدماج القيم الأخلاقية والتربوية في المناهج الدراسية أمر ضروري لتقوية الأخلاقيات في الجيل الجديد.
4. إشراك المجتمع: على المجتمع ككل، بما في ذلك الجمعيات والمنظمات الاجتماعية، أن تتحمل جزءًا من المسؤولية في توجيه الشباب والحد من الظواهر السلبية في الشوارع من خلال أنشطة تربوية ورياضية وثقافية.
إن ظاهرة السلوكيات العدوانية للأطفال في الشوارع ليست محصورة فقط في فاس أو في مناطق محددة، بل هي مشكلة تهم المجتمع ككل. من خلال فهم الأسباب التي تقف وراء هذه الظواهر، والتفاعل مع الأسرة والمدرسة والمجتمع بشكل جاد، يمكننا المساهمة في إصلاح سلوك الأطفال وضمان تربية سليمة لهم.