أخبارالرئيسيةثقافة و فن

كتاب..”حكاية أنه ما” لعبد الله ساعف

بقلم: المصطفى السهلي

“نهاية مأساوية لبطل أسطوري” من الكتب التي مر صدورها في صمت دون أن يَلتفت إليه الكثير من القراء والمتابعين كتاب يحمل عنوان: “حكاية “أنه ما”. سيرة محمد بن عمر الأحرش. جنرال مغربي في الفيتنام”، من تأليف الأستاذ عبد الله ساعف، وقد أصدره في فبراير 2007 عن منشورات دفاتر سياسية من الحجم الصغير في 215 صفحة.

وعلى غلافه الأول صورة للمترجَم له بلباس مدني رفقة فردين من أفراد أسرته. ويتصدر الكتابَ إهداءٌ إلى روح الراحل ألبير عياش، الذي يتفاجأ القارئ فيما بعد بالعتاب الشديد الذي وجهه إليه المؤلف بسبب عدم استطاعته إفادته بشيء كبير عن شخصية محمد بن عمر الأحرش.

ونتفهم هذا العتاب الناتج أساسا عن انبهار الكاتب بالمسار الاستثنائي والمدهش لشخصية بن عمر. انبهار جعله، ربما، ينتظر من رفاقه معلومات كثيرة عنه وعن مساره العسكري والسياسي.. لكنه فوجئ بما قاله له ألبير عياش بعدما استخرج من قمطره “جذاذة صغيرة وبسيطة ودقيقة إلى حد التحجر”، ثم خاطبه قائلا وهو يشير إلى الجذاذة: “لقد كنتَ مخطئا بانتظارك لكل هذا من شخصيتك هاته، فأنتَ ترى أنها لم تكن إلا هذا..”(ص.10).

ويستعرض المؤلف في بداية الكتاب الصعوبات الجمة التي واجهته حين كان بصدد استجماع المعلومات التي تتعلق بهذه الشخصية، والتحفظ الشديد الذي كانت تتسم به إفادات المسؤولين الحزبيين سواء في الحزب الشيوعي المغربي أو الأحزاب الشيوعية الأخرى في فرنسا، وفي الفيتنام، وفي الاتحاد السوفياتي، وفي الصين الشعبية، وهي كلها كانت لها صلة من قريب أو من بعيد بالجنرال المغربي.

وقد حرص على تجميع ما يمكن من المعلومات من مختلف المصادر: مسؤولو الأحزاب الشيوعية الذين عرفوا بن عمر، وقدماء المحاربين في الفيتنام، ومعارفه المباشرون، وزوجته، والمنابر الصحافية التي نشرت مقالات عنه.. واعتمد في قراءته لكل تلك المعطيات مقاربة علمية صارمة تتوخى المقارنة والتمحيص والتحليل الموضوعي. وهو ما أعطى للكتاب قيمة مضافة، بتقديمه للقارئ صورة حقيقية وواقعية عن شخصية المترجَم له، بانتصاراتها وانكساراتها، ومزاياها وعيوبها، وهدوئها وانفعالها، وصعود مؤشراتها وهبوطها..

وتعود الخيوط الأولى لحكاية محمد بن عمر، المزداد قرب خريبكة سنة 1914 أو 1915 في أمزيز وسط قبائل أولاد عبدون، إلى الفترة التي طلب فيها الحزب الشيوعي الفيتنامي من نظيره المغربي الحصول على إطار مغربي بإمكانه القيام بعمل سياسي في صفوف السجناء والجنود المغاربة في الفيتنام. وكان العديد منهم قد فروا من صفوف القوات الاستعمارية الفرنسية هناك، والتحقوا بالقوات الفيتنامية، فكانوا في حاجة إلى من يؤطرهم ويعطيهم تكوينا سياسيا يساعد على إدماجهم في مهامهم الجديدة.

وقد وقع اختيار علي يعته الأمين العام للحزب الشيوعي المغربي آنذاك على محمد بن عمر الأحرش للقيام بهذه المهمة؛ لأنه كان في السابق جنديا في الجيش الفرنسي وأبان عن قدرات عسكرية، إذ كان معروفا بين الرماة المهرة. كما كان لمشاركته في الحرب العالمية الثانية تأثير في اختياره، بالإضافة إلى كونه مناضلا متمرسا في صفوف الحزب وفي الحركة النقابية.

بدأت رحلة محمد بن عمر إلى الفيتنام في سرية تامة سنة 1950حيث التحق بفرنسا، وانتقل منها إلى بلجيكا وبولندا والاتحاد السوفياتي والصين، وصولا إلى الفيتنام. وعند وصوله استُقبِل من قِبَلِ وفدٍ رسمي، ثم أُخِذ لمقابلة “هوشي منه”، وهو الذي سيُطلِق عليه في ما بعد لقب “أنه ما: Anh Ma” والتي تعني: “الأخ الفَرس”.

وقد استطاع بسرعة، وبفضل مؤهلاته القيادية وشخصيته الكاريزمية، أن يتمتع بحظوة كبيرة لدى ممثلي “الفييت منه” (وهو الاسم الفيتنامي الذي يحيل على القوات الفيتنامية الثورية المكافحة من أجل الاستقلال عن فرنسا)، فكان يتحدث الند للند مع أطرهم، ومع قادة معسكرات الأسرى.

ولعل أهم ذكرى يحتفظ بها بن عمر خلال مقامه بالفيتنام، وقد حمل فيها أسماء مختلفة: معروف، ومارسيل، و”نكويين”، و”أنه ما”، والجنرال الحمري.. هي ذكرى مشاركته البطولية في معركة “ديان بيان فو” الفاصلة، والتي “سيظل مُغرَما بها حتى نفَـسِه الأخير، انطلاقا من الإعداد لها والأشغال المرتبطة بها إلى غاية الهجوم النهائي.”(ص.133).

وكمكافأة له على الأعمال البطولية التي أنجزها وعلى الدور التأطيري الذي قام به، فقد منحه الفيتناميون ميداليات من أعلى الدرجات، كما حصل على رتبة جنرال، وهي رتبة استثنائية تشهد على التقدير الكبير الذي كان يحظى به كبطل.

عاد بن عمر من رحلته الفيتنامية ببطولاته، وبشريكة حياته كاميليا، وهي صديقة للألمانية “إيزو” التي كانت من الأطر المساعدة له، إذ اشتغلت إلى جانبه كممرضة وكمنشطة ثقافية وكمنظمة للأنشطة الترفيهية لفائدة الجنود.

أما كاميليا فقد كانت تعمل مساعِدة صحية، وتعرفت على بن عمر في خضم المعارك العنيفة، وهي من مواليد هانوي في 11 غشت 1929، وكانت أمها ابنة لأب أوروبي وأم آسيوية.

بعد انتهاء الحرب ظل بن عمر محط تقدير وثناء من قِبَل القيادة الفيتنامية، وكلما التقى مسؤولون فيتناميون بقادة الحزب الشيوعي المغربي أعربوا لهم عن ثنائهم عليه، كما فعل الجنرال جياب عند مقابلته لعبد الله العياشي ممثلا للحزب الشيوعي المغربي في مؤتمر الحزب العمالي البولندي الموحد سنة 1959، أو كما فعل “هو شي منه” نفسه أثناء مقابلته لكل من علي يعته وعبد السلام بورقية اللذين كانا يمثلان الحزب الشيوعي المغربي في الحركة الشيوعية الدولية بموسكو سنة 1960. لكن هؤلاء القادة الفيتناميين، في الوقت نفسه، كانوا يعربون عن رغبتهم في أن تسَهّل السلطات المغربية عودة الجنود المغاربة، ومن ضمنهم بن عمر، إلى بلادهم.

وإذا كان معظم هؤلاء الجنود قد عادوا إلى بلدهم، فإن بن عمر الذي غادر الفيتنام عبر بلغاريا نحو الاتحاد السوفياتي وأقام به رفقة أسرته، قد قوبلت عودته بالرفض تلو الآخر من لدن السلطات المغربية.

ولم يتمكن من ذلك إلا بعد أن اشترى تأشيرته عن طريق إرشاء بعض موظفي السفارة، حسب رواية زوجته كاميليا. (ص.156).

وبعد وصولهم إلى ميناء طنجة في أحد أيام فبراير 1961 لم يكن في انتظارهم أحد، فنزلوا في فندق صغير، قرب الميناء، ثم غادروه في الغد الباكر نحو الدار البيضاء. وهناك أقيم حفل استقبال بمدرسة الدروس التكميلية بزنقة الهند الصينية بالدار البيضاء، حضره جل المناضلين الشيوعيين المغاربة ألقى خلاله عبد الله العياشي خطابَ ترحيب، ومجَّد الأعمال الباهرة للرفيق بن عمر الأحرش.

وفي سنة 1961 انتُخِب بن عمر كاتبا عاما لنقابة المكتب الشريف للفوسفاط بخريبكة، خلفا لأرسلان الجديدي. ووجد في مدينة خريبكة مجالا لممارسة رياضته المفضلة: رياضة القنص. وقد سُجِن ما بين شهر وشهرين أثناء الحملة الانتخابية سنة 1963 بسبب أنشطته النقابية.

وقد أثار المؤلف أسئلة على قدر كبير من الوجاهة، هي: لماذا لم يعد بن عمر بعد نهاية حرب استقلال الهند الصينية سنة 1954 إلى المغرب، سيما وأن المقاومة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي كانت في أوجها؟ ولماذا لم يُثِر الحزب الشيوعي أبدا قضية عودة محمد بن عمر؟ ولماذا بدأت تسوء علاقته بقيادة الحزب بعد عودته؟ وهل التحق فعلا بأحد فصائل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ أسئلة سيلفها الكثير من الغموض، كما لف كل جوانب هذه الشخصية.

وعندما انتقل للعمل في المركب الكيماوي بأسفي، شهد هذا الأخير إضرابات أدت إلى توقيفه عن العمل بعد اتهامه بالتزوير واستعمال أوراق مزورة. ثم قرر تسفير أسرته إلى فرنسا، وعبَر هو الحدود الجزائرية سرا، ثم التحق هناك بمعسكرات المعارضة المغربية بالجزائر، وأصبح يحمل اسم أبو فاضل، ابنه البكر الذي ولد في أدغال الفييت منه.

لكنه مع ذلك كان يبدو، حسب شهادة لمحمد بنيحيى، مهمَّشا سواء من قِبَل المغاربة أو من قِبَل الجزائريين. وكان يشرب الخمر دون انقطاع، وهي من الأمور التي عيبت عليه، بالإضافة إلى ميله إلى حياة البذخ، لكنه “لم يتنكر أبدا لقناعاته الراسخة: الأممية الشيوعية، والتنظيم الشيوعي، والمفهوم الماركسي للعنف، وأولوية السياسي على العسكري.”(ص.186).

ومما لا شك فيه أن بن عمر قد أصيب بخيبات أمل كبيرة، سواء أَبَعد عودته إلى المغرب أم بعد نزوحه إلى الجزائر، وكانت له خلافات مع رفاقه في النضال، ومنهم الفقيه البصري الذي اختلف معه بعد رفضه لمخطط عمل اقترحه بن عمر الذي كان يعتبر تصور الفقيه البصري عن الكفاح المسلح وحرب العصابات تصورا خاطئا، فأصبح الخلاف بينهما عميقا وانتهى بالقطيعة سنة 1970. (ص.194).

وهكذا وجد نفسه في النهاية محروما من المساعدات التي كان يمده بها الرفاق والتي كان يعيش بها مع عائلته، فمر بظروف عصيبة جدا، بل تحول من شخصية ذات مستوى عال إلى شخصية “يجري تحجيمها في نهاية حياتها إلى حالة “بهلوان”. (ص.196)، فأصبح محط استهزاء من قبل رفاقه في المنفى، حين كان يقص عليهم استشارة الجنرال “جياب” له حول أفضل أسلوب لقيادة معركة “ديان بيان فو”، أو عندما يروي لهم بتلقائية عن مبارياته معه في الشطرنج، فيقولون: “ألم يكن لدى “جياب” العظيم ما يفعله غير اللعب مع مثل هذا السكير!؟”. (ص.196).

وككل المآسي العظيمة تنتهي حياة بن عمر بعد إصابته بسرطان الحلق، فنقله الجزائريون إلى مستشفى متخصص بوهران، ثم غادر الجزائر في فبراير 1971 إلى باريس بعد أن ضمنت له وزارة الصحة الجزائرية تحملا لنفقات العلاج، غير أنه توفي هناك بعيدا عن أفراد أسرته بتاريخ 7ماي 1971.

وتروي زوجته كاميليا أن أحد رجال الأعمال الذي كان ينتمي لأوساط المعارضة المغربية بالجزائر العاصمة ابتاع لها تذكرة الطائرة، وسلمها المال اللازم للدفن. (ص.198).

وهكذا دُفِن هذا الرجل الأسطورة في المقبرة المجاورة للمستشفى، بعد أن تنكر له الجميع. ويختم الكاتب مؤلفه بشهادة معبرة ومخجلة للحسين الصغير، وهو معارض مغربي حُكِم عليه بالإعدام في إطار المحاكمة الخاصة بمؤامرة 1963، قال فيها: “ذهبتُ إلى الجنازة، لكنني وصلتُ متأخرا. لم يكن هناك سوى ثلاثة أشخاص: زوجته وأختاها، وكان قد تم دفنه، كان الجو ممطرا ذلك اليوم، وكنتُ أشعر بالخجل لتأخري.”(ص.198).

*منشورات دفاتر سياسية – 2007.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button