
يدخل مشروع القانون المنظم للمجلس الوطني للصحافة إلى غرفة مجلس المستشارين بعد ما صوت عليه مجلس النواب، ليحسم في هذا الجدل الدائر حول التنظيم الذاتي.
ويُعدّ المجلس الوطني للصحافة (CNP) في المغرب هيئة مستقلة مكلفة بتنظيم مهنة الصحافة، وضمان أخلاقيات المهنة، وحماية حقوق الصحفيين والناشرين. إلا أن القوانين المنظمة لعمل المجلس، منذ إنشائه، أثارت وما زالت تثير جدلاً واسعاً في الأوساط الصحفية والحقوقية والسياسية في المغرب. يتناول هذا التقرير أبرز نقاط الجدل حول هذه القوانين، مع تسليط الضوء على آراء الأطراف المختلفة.
خلفية عن المجلس الوطني للصحافة:
تأسس المجلس الوطني للصحافة في المغرب بموجب القانون رقم 90.13 المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة، والذي صدر في عام 2018. جاء إنشاء المجلس كخطوة نحو تنظيم ذاتي لمهنة الصحافة، وتطبيقاً لمقتضيات دستور 2011 الذي ينص على حرية الصحافة والنشر. يضم المجلس في عضويته ممثلين عن الصحفيين والناشرين، بالإضافة إلى شخصيات مستقلة.
أبرز نقاط الجدل حول قوانين المجلس تتركز الانتقادات الموجهة لقوانين المجلس الوطني للصحافة حول عدة محاور رئيسية:
الاستقلالية والتمثيلية:
- مخاوف بشأن الاستقلالية: يرى بعض المنتقدين أن استقلالية المجلس ليست مضمونة بالكامل، وذلك بسبب تدخل السلطات الحكومية في بعض مراحل تشكيله أو تمويله، أو بسبب عدم وضوح الحدود بين صلاحياته وصلاحيات وزارة الاتصال (سابقاً) أو الهيئات الحكومية الأخرى. يرى هؤلاء أن أي تدخل حكومي، مباشر أو غير مباشر، يقوض مبدأ التنظيم الذاتي للمهنة.
- تمثيلية غير متوازنة: يشتكي بعض الصحفيين من أن تمثيلية فئات معينة داخل المجلس غير كافية، خاصة الصحفيين الشباب أو العاملين في الإعلام الرقمي. يرى البعض أن هناك هيمنة لتيارات معينة أو لصحفيين ينتمون إلى مؤسسات إعلامية تقليدية، مما يؤثر على قدرة المجلس على تمثيل جميع أطياف المهنة.
- معايير الانتخاب والترشح: أثيرت تساؤلات حول شفافية وعدالة معايير الترشح والانتخاب لعضوية المجلس، مما أدى إلى اعتراضات من بعض الصحفيين الذين رأوا أن هناك إقصاءً متعمداً أو غير مقصود لبعض الكفاءات.
الصلاحيات والتأديب:
- الصلاحيات التأديبية الواسعة: يثير البعض قلقاً بشأن الصلاحيات التأديبية الواسعة الممنوحة للمجلس، والتي تشمل توقيف الصحفيين عن العمل أو سحب بطاقة الصحافة المهنية. يرى المنتقدون أن هذه الصلاحيات قد تُساء استخدامها للتضييق على حرية التعبير أو معاقبة الصحفيين الذين ينتقدون السلطة أو يثيرون قضايا حساسة. يُطالبون بأن تكون هذه الصلاحيات محددة بدقة وواضحة، وأن تكون هناك ضمانات كافية لحقوق الدفاع.
- التعارض مع قوانين أخرى: يرى بعض الحقوقيين أن هناك تعارضاً محتملاً بين صلاحيات المجلس وبعض مواد القانون الجنائي أو قوانين أخرى تتعلق بالنشر والاتصال. يطالبون بضرورة التنسيق وتوضيح هذه العلاقة لتجنب الازدواجية في العقاب أو تضارب الاختصاصات.
- مفهوم “الخطأ المهني الجسيم“: تُعدّ عبارة “الخطأ المهني الجسيم” التي تُستخدم كأساس للعقوبات التأديبية، مبهمة وغير محددة بشكل واضح في القانون، مما يفتح الباب للتأويلات ويجعل الصحفيين عرضة لتفسيرات مختلفة يمكن أن تُستخدم ضدهم.
العلاقة مع السلطة القضائية وحرية التعبير:
- تداخل الاختصاصات: يتساءل البعض عن طبيعة العلاقة بين المجلس والسلطة القضائية، خاصة في القضايا التي تمس حرية التعبير أو التي يمكن أن تُصنف كجرائم تتعلق بالنشر. هل يختص المجلس وحده بالفصل في المخالفات المهنية، أم أن القضاء يمكنه أيضاً التدخل؟ يُطالبون بتحديد واضح للعلاقات بين الهيئتين لتجنب أي تداخل أو تنازع في الاختصاصات.
- التأثير على حرية التعبير: يرى عدد من المدافعين عن حقوق الإنسان أن قوانين المجلس، بطبيعتها التأديبية وبعض بنودها التي يمكن أن تُفهم على أنها مقيدة، قد تؤثر سلباً على حرية التعبير في المغرب، وتدفع الصحفيين نحو الرقابة الذاتية خوفاً من العقوبات.
- مطالبات ب إلغاء العقوبات السجنية: رغم أن قانون المجلس لا ينص على عقوبات سجنية، إلا أن بعض الصحفيين يطالبون بضرورة إلغاء جميع العقوبات السجنية المتعلقة بجرائم النشر من القانون الجنائي، ويرون أن هذا هو الضمان الأساسي لحرية الصحافة.
الجانب المالي والتمويل:
- شفافية التمويل: تثير بعض الجهات تساؤلات حول شفافية تمويل المجلس، خاصة فيما يتعلق بالدعم الحكومي أو من جهات أخرى. يطالبون بضرورة الإفصاح الكامل عن مصادر التمويل وطرق صرفها لضمان استقلالية المجلس عن أي ضغوط مالية.
- الرسوم المهنية: أثير جدل حول الرسوم المهنية التي يُلزم الصحفيون بدفعها للمجل، حيث يرى البعض أنها تشكل عبئاً على الصحفيين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها القطاع.
الشفافية والحكامة:
- آليات التظلم والطعن: يرى بعض المحللين أن آليات التظلم والطعن في قرارات المجلس ليست واضحة أو كافية، مما يحد من قدرة الصحفيين المتضررين على الدفاع عن حقوقهم.
- غياب معايير واضحة: يطالب البعض بوضع معايير واضحة ومحددة لجميع قرارات المجلس، سواء فيما يتعلق بالانتخابات أو الصلاحيات التأديبية، لضمان الشفافية والعدالة.
آراء الأطراف المختلفة:
- المجلس الوطني للصحافة: يؤكد المجلس باستمرار على استقلاليته وحرصه على تطبيق القانون بإنصاف، والعمل على تنظيم المهنة وتطويرها. يرى أن القوانين الحالية تشكل إطاراً مهماً لضبط القطاع وحماية الصحفيين من الممارسات غير الأخلاقية. ويشدد على أن الهدف الأساسي هو تعزيز أخلاقيات المهنة وضمان حرية الصحافة المسؤولة.
- النقابة الوطنية للصحافة المغربية: تعد النقابة شريكاً أساسياً في عملية إرساء المجلس، وتعمل على الدفاع عن حقوق الصحفيين. تختلف آراء أعضائها حول القوانين، فبينما يدعم البعض الإطار الحالي كخطوة إيجابية، يُطالب آخرون بمراجعة بعض البنود لضمان مزيد من الحرية والديمقراطية.
- جمعيات حقوق الإنسان: تُعدّ هذه الجمعيات من أبرز المنتقدين لبعض بنود قوانين المجلس، وتدعو إلى مراجعتها بما يضمن أقصى درجات حرية التعبير والصحافة، وإلغاء أي بنود قد تُفسر على أنها تقييدية.
- الصحفيون المستقلون والمدونون: يرى بعض الصحفيين المستقلين والمدونين أن قوانين المجلس لا تراعي بشكل كافٍ واقع الإعلام الرقمي والممارسات الصحفية الجديدة، وأنها قد تفرض قيوداً غير ضرورية على الفاعلين الجدد في الساحة الإعلامية.
التوصيات المقترحة:
لتهدئة الجدل وضمان فعالية المجلس الوطني للصحافة في أداء مهامه، يمكن اقتراح التوصيات التالية:
- مراجعة شاملة للقوانين: فتح نقاش وطني واسع وموسع يضم جميع الأطراف المعنية (صحفيين، ناشرين، حقوقيين، أكاديميين، ممثلي الحكومة) لمراجعة القوانين المنظمة للمجلس، مع الأخذ بعين الاعتبار الملاحظات والانتقادات.
- تعزيز الاستقلالية: اتخاذ إجراءات قانونية وعملية لضمان الاستقلالية التامة للمجلس، بما في ذلك استقلالية التمويل وعدم التدخل الحكومي في شؤونه الداخلية.
- تحديد الصلاحيات بدقة: وضع تعريفات واضحة ودقيقة للمفاهيم القانونية، مثل “الخطأ المهني الجسيم”، وتحديد صلاحيات المجلس التأديبية بشكل لا يدع مجالاً للتأويلات التي قد تُستخدم للتضييق على الحريات.
- تعزيز الشفافية والحكامة: تطوير آليات واضحة للشفافية في جميع عمليات المجلس (انتخابات، قرارات تأديبية، تمويل)، وتعزيز آليات التظلم والطعن.
- التنسيق مع السلطة القضائية: إيجاد آليات واضحة للتنسيق بين المجلس والسلطة القضائية لتجنب تضارب الاختصاصات وضمان تطبيق القانون بشكل عادل ومنصف.
- إلغاء العقوبات السجنية عن جرائم النشر: الضغط من أجل إلغاء جميع العقوبات السجنية المتعلقة بجرائم النشر من القانون الجنائي المغربي.
- مراعاة التطورات التكنولوجية: تحديث القوانين لتشمل التطورات الجديدة في مجال الإعلام الرقمي والصحافة الإلكترونية، وضمان حقوق وواجبات جميع الفاعلين في هذا المجال.
إن الجدل الدائر حول قوانين المجلس الوطني للصحافة يعكس أهمية هذه الهيئة ودورها المحوري في المشهد الإعلامي المغربي. إن الوصول إلى قوانين متوافق عليها وتحظى بثقة جميع الأطراف هو أمر بالغ الأهمية لتعزيز حرية الصحافة، وضمان بيئة إعلامية مهنية ومسؤولة، تساهم في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في المغرب. يتطلب ذلك حواراً بناءً وتنازلاً من جميع الأطراف من أجل المصلحة العليا للصحافة والمجتمع.



