حكاية الشفق الأخير والفجر الأول

حكاية الشفق الأخير والفجر الأول
كانت الجدة تتحدّث،
وصوتها نهرٌ يجري حاملاً في مياهه قروناً من الحكايات،
كانت تحدّث الأطفال الذين أوكلها بهم آباؤهم،
أطفالًا بأيدٍ مملوءةٍ بالأسئلة،
وأحلامٍ قد تلطّخت رمادًا قبل أن تزهر.
قالت:
«استمعوا إليّ يا أحبّتي،
سأحكي لكم كيف تغيّر العالم،
كيف أن آباءكم وأمهاتكم،
الذين لا ترونهم إلا نادرًا،
كانوا يظنون أنهم يبنون إمبراطوريات،
فما فعلوا إلا أن راكموا الخرائب.»
قصّت عليهم حكاية
القوافل الصامتة في الموانئ العسكرية،
عن الأطفال الذين مُسحوا من الأرض،
عن شعوبٍ نُزعت من أوطانها،
كما تُنزع الحصى من حذاء عملاقٍ فقد الإحساس بالألم.
تحدثت عن رجالٍ
كانوا يخشون السلام أكثر من خوفهم من الحرب،
يرفضون الزهور لأنها تنمو بلا نظام،
ويريدون إسكات العصافير
لأنها تغني ما تشاء.
وأشارت بأصبعها
إلى الخرائط التي كانت تُرسم من جديد بلا محبة،
إلى التحالفات المصنوعة من الحديد والنفط،
وإلى الصمت الدبلوماسي الثقيل كالقنابل.
ثم توقّفت.
وارتجف المكان من حولها.
أما الأطفال
فقد كبروا فجأة – دفعة واحدة، جميعهم، دون استثناء.
كان للفتيان لحى خفيفة، قاسية كأنها العدالة،
وكانت للفتيات صدور يحملنها
كأنها دروع من النبل والحنان.
ونهضوا جميعًا،
وقالوا: “لا.”
لا لإرث الفزع،
لا للأسلحة التي تُسكِت الضحكات،
لا للمنطق المفرغ من الروح
الذي يحكم به المنتصرون المنهكون.
أخذوا مقاليد السلطة، واحدة تلو الأخرى،
وكسروا كلّ سلطة كما تُكسر اللُّعَب التالفة.
ثم أقاموا مدارس للسلام،
وغاباتٍ للحوار،
وبيوتًا تنصت جدرانها.
وأما آباؤهم؟
فقد أرسلوهم ليقضوا ما تبقى من أعمارهم
في أمكنةٍ بلا هواتف،
ولا قنواتٍ إخباريةٍ متواصلة،
لكن مليئةٍ بالكتب،
وبروائع أدب الشعوب،
وبأفلامٍ عن الحب،
وبمحترفات للرسم،
وفنونٍ أخرى.
وأما الجدة؟
فقد نظرت إليهم واحدًا واحدًا،
ثم تلاشت، دون أن تنطق بكلمة،
لا في ظلمة الليل،
بل في ضوء صباحٍ جديد
كان مقدّرًا أن يولد فيه العالم من جديد.
وأظن أن ذلك الصباح
كان آخر مرة رأتني فيها…
أو لعله كان أول مرة.
كنت قد ابتعدتُ عن البقية،
وجلستُ على حافة الطريق،
أمسك بهاتفي القديم،
لا هروبًا من الكلمات،
بل لأحفظها، وأورّثها بطريقةٍ أخرى.
نظرت إليّ طويلاً دون أن تنبس بكلمة،
ربما تساءلت في نفسها
عمّا كنت أفعله بعيدًا عن الآخرين،
وهاتفي في يدي.
فهمستُ لها، كمن يعتذر:
— «ألم تكن حكاية أسطورة فقط، يا جدّتي؟ … أليس كذلك؟»
لكنها لم تلتفت، ولم تجب،
بل تركتني هناك،
على حافة الحكاية،
وهي تمضي نحو الفجر
الذي كانت قد حدّثتنا عنه…
مترجم عن الفرنسية
عبداللطيف زكي
الرباط، 29 يوليو 2025



