اليسار: انحدار وتفكك.. انشقاقات ومواثيق فاوستية

مثل كثير من أبناء جيلي، تابعتُ خلال العقود الأخيرة التحوّل العميق في مشهد اليسار بالمغرب. شهدتُ انحدار الأحزاب الكبرى التي كانت فيما مضى في طليعة الحياة السياسية – بعضهم يقول اختفَت أو في طريقها إلى الزوال – وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP) وحزب التقدّم والاشتراكية (PPS)، إلى جانب انسحاب بعض أبرز مفكّريها، وإعادة توجيه منظمات المجتمع المدني المنبثقة عنها، بما جسّد انتقالاً من طموح ثوري إلى استسلام سياسي.
في الوقت ذاته، قامت الدولة بشكل منهجي بتسامحٍ – بل وتشجيع – حركات إسلامية، من السلفية المحافظة إلى الصعود الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، بهدف إضعاف نفوذ اليسار.
هذه الورقة، المستخرجة من الأرشيف والمحدَّثة، تروم أن تندرج ضمن النقاش حول الوضع الراهن لليسار، وتقترح مراجعة للديناميات الداخلية والتدخلات الخارجية التي ساهمت، في تقديري، في إعادة رسم الخريطة الأيديولوجية للمغرب.
- المسار التاريخي لليسار المغربي
يتجلّى ما يبدو بوضوح أنه انحدار اليسار في تراجع الحضور الانتخابي للاتحاد الاشتراكي، وكذلك في تقلّص نفوذه وسط الشباب، والنقابات، والأوساط الفكرية، إضافة إلى شهادات وتشخيصات صادرة عن مناضليه أنفسهم (حسن نجمي، محمد الأشعري الغزّي، وآخرون).
في لقاءاته مع قادة الأحزاب السياسية عقب الخطاب الملكي في 29 يوليوز 2025، شدّد وزير الداخلية على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما جعل المراقبين يرون أن المؤشرات تنذر بعزوف الناخبين، خاصة من قواعد الأحزاب التاريخية.
1.1 النشأة والذروة للاتحاد الاشتراكي
وُلِد الاتحاد الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي من انشقاق عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (UNFP)، وفرض نفسه كطليعة للاشتراكية الاحتجاجية بالمغرب. متجذّر في النضالات العمالية، والحركة الطلابية، ومعارضة النظام الملكي، تعرّض لقمع شديد: اعتقالات، نفي، مضايقات. بلغت ذروته سنة 1998 مع تشكيل أول حكومة «التناوب التوافقي» بقيادة عبد الرحمن اليوسفي.
«اليسار تغيّر، لكن النظام لم يتغيّر. انضمّ إلى السلطة دون أن يغيّرها.» — إدريس مغراوي (الجزيرة، 2016)
1.2 الاستيعاب المؤسساتي والانهيار الانتخابي
تبلورت على مدى العقود قناعة لدى الكثيرين بعدة ملاحظات:
- قيادة أكثر انغلاقاً وذات طابع زبوني، خصوصاً في عهد إدريس لشكر؛
- إضعاف الديمقراطية الداخلية؛
- تآكل القاعدة الاجتماعية للحزب — من أساتذة وطلبة ونقابيين وشباب — واستبدالها بأعيان ورجال أعمال.
بين 2002 و2007 تراجع عدد مقاعد الاتحاد من 50 إلى 38، وسط انتقادات لفقدان البوصلة الأيديولوجية وتصاعد السلطوية الداخلية.
- الانسحاب السياسي والتآكل الأيديولوجي
2.1 انسحاب وانتهازية
غادرت شخصيات تاريخية وكوادر أساسية ومتعاطفون كثر الساحة السياسية، بعدما اعتبروا ممارسات الحزب تنازلات غير مقبولة. بعضهم تحوّل إلى تكنوقراط، وآخرون التحقوا بأحزاب قريبة من القصر، مضحّين بهويتهم الأيديولوجية حفاظاً على بقائهم في اللعبة السياسية.
هكذا، يجلس اليوم عدد من رموز النضال السابق في تشكيلات موالية للملكية، فيما انقطع آخرون عن النشاط السياسي كلياً وقد استبدّ بهم النفور.
هذا لا يعبّر فقط عن إرهاق شخصي طبيعي، بل يكشف عن ابتعاد عميق للطبقة السياسية عن مبادئها المؤسسة.
2.2 الأزمة البنيوية لليسار
أحزاب يسارية أخرى — كحزب التقدّم والاشتراكية، وفيدرالية اليسار الديمقراطي، والنهج الديمقراطي — برزت لكنها لم تستطع بناء نفوذ فعلي بحيث أن اليسار الديمقراطي ككل ما يزال مفككاً ومحبطاً.
الإرث اليساري بات متشظياً: زعماؤه التاريخيون غادروا الحياة السياسية أو التحقوا بأحزاب لا صلة لها بالاشتراكية، بينما انحرفت منظمات حقوقية ذات جذور يسارية عن التزاماتها الأصلية.
فمنذ التسعينيات خصوصاً، عرف اليسار سلسلة من الانشقاقات والتحالفات والاندماجات، حيث التحق معارضون سابقون وأقطاب بارزون بأجهزة الدولة أو بأحزاب أخرى، خاصة مع الانفتاح السياسي الذي دشنه المرحوم الحسن الثاني واستمر في عهد محمد السادس.
- الترويج الاستراتيجي للحركات الإسلامية
3.1 تكتيك «فرّق تسد»
منذ السبعينيات، في عهد الملك الحسن الثاني، لم تكتفِ الملكية بالتغاضي عن الحركات الإسلامية، بل عملت على دعمها فعلياً، خصوصاً الجمعيات السلفية، لمواجهة الماركسيين واليسار الراديكالي في الجامعات والأوساط الشعبية.
3.2 القنوات الإسلامية التقليدية
حزب العدالة والتنمية، المنبثق من شبكات إسلامية أقدم (مثل الشبيبة الإسلامية)، حظي بهامش مناورة، أبرزها إدماجه البرلماني بفضل أنشطته التعليمية والخيرية. كما قادت الدولة «هندسة دينية» شاملة: إصلاح تكوين الأئمة، مراقبة المساجد، الترويج لإسلام مالكي أشعري «معتدل» وصوفي، مع تركيز السلطة الدينية في يد الدولة.
3.3 سلطوية تنافسية
كما لاحظ هولغر ألبرخت، طوّر المغرب «نظام سلطوية تنافسية»؛ ديمقراطية واجهة تحفظ هيمنة الملكية وتعمّق التجزئة الأيديولوجية.
3.3 استبداد تنافسي
كما أشار هولغر ألبريخت، فقد طوّر المغرب ما يُسمّى بـ “نظام الاستبداد التنافسي”: ديمقراطية شكلية تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الملكية مع الإبقاء على حالة من التفكك الأيديولوجي.
ومن بين الآليات التقنية التي يُؤخذ بها على هذا النظام والتي ساهمت في عزوف المواطنين:
- مركزية السلطة والقرارات المتعلقة بعملية الإنتخاب والتصويت
- إنشاء أحزاب سياسية لأغراض ظرفية،
- طرق التسجيل في اللوائح الانتخابية،
- إجراءات التصويت،
- إقحام شخصيات بلا خلفية سياسية،
- التقطيع الانتخابي،
- نظام تمويل الأحزاب،
- تعدد مكاتب التصويت،
- التحكم في الوصول إلى وسائل الإعلام العمومية،
- تقنيات عدّ وفرز الأصوات وإعلان النتائج،
- تدبير ترحال المرشحين بين الأحزاب بشكل موجَّه،
- استعمال المال – بما فيه الحرام – وشراء الأصوات على نطاق واسع، إلخ.
- المجتمع المدني: استقلالية، استيعاب وتدجين
4.1 الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (AMDH)
تأسست سنة 1979 وحافظت على خطاب نقدي رغم كل الصعوبات التي واجهتها: رفض الاعتراف الإداري، قطع التمويل، إغلاق الفروع، ومضايقة المناضلين.
4.2 المنظمة المغربية لحقوق الإنسان (OMDH)
أُنشئت سنة 1988، واتجهت تدريجياً نحو المؤسساتية والتسوية مع الدولة. تترأس أمينـة بوعياش حالياً المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ما يعتبره البعض تطبيعاً مدنياً.
4.3 صعود «الـGONGO» (المنظمات غير الحكومية الموالية للدولة)
شجّعت الدولة على إنشاء جمعيات متماشية مع خطابها الرسمي، مما خلق احتكاراً للسردية وحرم الفاعلين المستقلين من الموارد ومن خطابهم الأصيل.
- الرهانات والآفاق
5.1 التمييع الأيديولوجي
التجزئة الحزبية، تدجين الجمعيات، والترويج الرسمي للإسلاميين وآليات تدبير الشأن العام جعل اليسار مهمشاً، عاجزاً عن حمل مشروع تحرري متماسك.
5.2 التحديات المؤسساتية
إعادة بناء اليسار تتطلب عودة صريحة لمبادئه، إحياء الديمقراطية الداخلية، بناء تحالفات قاعدية، وربط الجسور مع المجتمع المدني المستقل.
5.3 الشباب والحركات الاجتماعية
كشفت حركات مثل حراك الريف (2016–2017) أزمة بنيوية أعمق من قدرة الأحزاب التقليدية ليبقى السؤال: هل يستطيع اليسار أن يتحرك خارج المؤسسات، ويستعيد الفعل المباشر، ويعيد التفكير في تحالفاته؟
5.4 تقاطعات متناقضة: تحالفات تكتيكية بين اليسار الراديكالي والإسلاميين
ما كان مستحيلاً زمن الانقسامات الحادة أصبح واقعاً: بعض فصائل اليسار الراديكالي تنسّق مع تيارات إسلامية ضد الدولة. هذه التقاطعات لا تقوم على قناعة مشتركة بقدر ما تنبع من خصم مشترك.
لكن الهوة الأيديولوجية باقية، خصوصاً حول حقوق المرأة والعلمانية والحريات الفردية، مما يجعل هذه التحالفات هشة ومثيرة للجدل.
خاتمة
نُخرت بنية اليسار من الداخل بفعل تآكل هياكله، وأُضعفت من الخارج عبر دولة روّجت بدقة لبدائل أيديولوجية لاحتواء طموحاته، مع هندسة إدارية و«ديمقراطية مُدارة».
أصبح الإسلام السياسي المراقَب أداة لتقوية النظام.
فمستقبل اليسار المغربي مرهون بقدرته على تجاوز هذا الإرث، استعادة وضوحه الأيديولوجي، شرعيته الاجتماعية ورؤيته للتجديد، إضافة إلى قلب آليات العملية الديمقراطية لصالح مشاركة فعلية.
ولإن لم يُعِد اليسار بناء ذاته أخلاقياً، استراتيجياً وأيديولوجياً، فإنه لن ي سوى هامش في التاريخ السياسي للمغرب.
مراجع
- Wegner & Pellicer, Left–Islamist Opposition Cooperation in Morocco, BJMES, 2011
- Bensalah Alaoui, Morocco’s Security Strategy, Mediterranean Politics, 2017
- Maghraoui, Islamism in Morocco, Markus Wiener
- Is the Moroccan Left Experiencing an Organizational and Ideological Crisis?, Islamic Societies Review, 2021
- تقارير ومقالات من: الجزيرة، إيـكوال تايمز، ميدل إيست آي
عبد اللطيف زكي
الرباط، 17 يوليوز 2025
صديقي العزيز ،
اودعك هذا المقال قبل نشره ويهمني أن أعرف إن كان يهم استاذنا الجليل السي عبدالسلام وإن كان مما تستسيغه نشرته الراقية. وإن كان كذلك، هل يهمه أن اقترح عليه مقالات من هذه الطبيعة.
المقال:
اليسار: انحدار، تفكك، انشقاقات ومواثيق فاوستية
مقدمة
مثل كثير من أبناء جيلي، تابعتُ خلال العقود الأخيرة التحوّل العميق في مشهد اليسار بالمغرب. شهدتُ انحدار الأحزاب الكبرى التي كانت فيما مضى في طليعة الحياة السياسية – بعضهم يقول اختفَت أو في طريقها إلى الزوال – وعلى رأسها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (USFP) وحزب التقدّم والاشتراكية (PPS)، إلى جانب انسحاب بعض أبرز مفكّريها، وإعادة توجيه منظمات المجتمع المدني المنبثقة عنها، بما جسّد انتقالاً من طموح ثوري إلى استسلام سياسي.
في الوقت ذاته، قامت الدولة بشكل منهجي بتسامحٍ – بل وتشجيع – حركات إسلامية، من السلفية المحافظة إلى الصعود الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، بهدف إضعاف نفوذ اليسار.
هذه الورقة، المستخرجة من الأرشيف والمحدَّثة، تروم أن تندرج ضمن النقاش حول الوضع الراهن لليسار، وتقترح مراجعة للديناميات الداخلية والتدخلات الخارجية التي ساهمت، في تقديري، في إعادة رسم الخريطة الأيديولوجية للمغرب.
- المسار التاريخي لليسار المغربي
يتجلّى ما يبدو بوضوح أنه انحدار اليسار في تراجع الحضور الانتخابي للاتحاد الاشتراكي، وكذلك في تقلّص نفوذه وسط الشباب، والنقابات، والأوساط الفكرية، إضافة إلى شهادات وتشخيصات صادرة عن مناضليه أنفسهم (حسن نجمي، محمد الأشعري الغزّي، وآخرون).
في لقاءاته مع قادة الأحزاب السياسية عقب الخطاب الملكي في 29 يوليوز 2025، شدّد وزير الداخلية على المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما جعل المراقبين يرون أن المؤشرات تنذر بعزوف الناخبين، خاصة من قواعد الأحزاب التاريخية.
1.1 النشأة والذروة للاتحاد الاشتراكي
وُلِد الاتحاد الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي من انشقاق عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (UNFP)، وفرض نفسه كطليعة للاشتراكية الاحتجاجية بالمغرب. متجذّر في النضالات العمالية، والحركة الطلابية، ومعارضة النظام الملكي، تعرّض لقمع شديد: اعتقالات، نفي، مضايقات. بلغت ذروته سنة 1998 مع تشكيل أول حكومة «التناوب التوافقي» بقيادة عبد الرحمن اليوسفي.
«اليسار تغيّر، لكن النظام لم يتغيّر. انضمّ إلى السلطة دون أن يغيّرها.» — إدريس مغراوي (الجزيرة، 2016)
1.2 الاستيعاب المؤسساتي والانهيار الانتخابي
تبلورت على مدى العقود قناعة لدى الكثيرين بعدة ملاحظات:
- قيادة أكثر انغلاقاً وذات طابع زبوني، خصوصاً في عهد إدريس لشكر؛
- إضعاف الديمقراطية الداخلية؛
- تآكل القاعدة الاجتماعية للحزب — من أساتذة وطلبة ونقابيين وشباب — واستبدالها بأعيان ورجال أعمال.
بين 2002 و2007 تراجع عدد مقاعد الاتحاد من 50 إلى 38، وسط انتقادات لفقدان البوصلة الأيديولوجية وتصاعد السلطوية الداخلية.
- الانسحاب السياسي والتآكل الأيديولوجي
2.1 انسحاب وانتهازية
غادرت شخصيات تاريخية وكوادر أساسية ومتعاطفون كثر الساحة السياسية، بعدما اعتبروا ممارسات الحزب تنازلات غير مقبولة. بعضهم تحوّل إلى تكنوقراط، وآخرون التحقوا بأحزاب قريبة من القصر، مضحّين بهويتهم الأيديولوجية حفاظاً على بقائهم في اللعبة السياسية.
هكذا، يجلس اليوم عدد من رموز النضال السابق في تشكيلات موالية للملكية، فيما انقطع آخرون عن النشاط السياسي كلياً وقد استبدّ بهم النفور.
هذا لا يعبّر فقط عن إرهاق شخصي طبيعي، بل يكشف عن ابتعاد عميق للطبقة السياسية عن مبادئها المؤسسة.
2.2 الأزمة البنيوية لليسار
أحزاب يسارية أخرى — كحزب التقدّم والاشتراكية، وفيدرالية اليسار الديمقراطي، والنهج الديمقراطي — برزت لكنها لم تستطع بناء نفوذ فعلي بحيث أن اليسار الديمقراطي ككل ما يزال مفككاً ومحبطاً.
الإرث اليساري بات متشظياً: زعماؤه التاريخيون غادروا الحياة السياسية أو التحقوا بأحزاب لا صلة لها بالاشتراكية، بينما انحرفت منظمات حقوقية ذات جذور يسارية عن التزاماتها الأصلية.
فمنذ التسعينيات خصوصاً، عرف اليسار سلسلة من الانشقاقات والتحالفات والاندماجات، حيث التحق معارضون سابقون وأقطاب بارزون بأجهزة الدولة أو بأحزاب أخرى، خاصة مع الانفتاح السياسي الذي دشنه المرحوم الحسن الثاني واستمر في عهد محمد السادس.
- الترويج الاستراتيجي للحركات الإسلامية
3.1 تكتيك «فرّق تسد»
منذ السبعينيات، في عهد الملك الحسن الثاني، لم تكتفِ الملكية بالتغاضي عن الحركات الإسلامية، بل عملت على دعمها فعلياً، خصوصاً الجمعيات السلفية، لمواجهة الماركسيين واليسار الراديكالي في الجامعات والأوساط الشعبية.
3.2 القنوات الإسلامية التقليدية
حزب العدالة والتنمية، المنبثق من شبكات إسلامية أقدم (مثل الشبيبة الإسلامية)، حظي بهامش مناورة، أبرزها إدماجه البرلماني بفضل أنشطته التعليمية والخيرية. كما قادت الدولة «هندسة دينية» شاملة: إصلاح تكوين الأئمة، مراقبة المساجد، الترويج لإسلام مالكي أشعري «معتدل» وصوفي، مع تركيز السلطة الدينية في يد الدولة.
3.3 سلطوية تنافسية
كما لاحظ هولغر ألبرخت، طوّر المغرب «نظام سلطوية تنافسية»؛ ديمقراطية واجهة تحفظ هيمنة الملكية وتعمّق التجزئة الأيديولوجية.
3.3 استبداد تنافسي
كما أشار هولغر ألبريخت، فقد طوّر المغرب ما يُسمّى بـ “نظام الاستبداد التنافسي”: ديمقراطية شكلية تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الملكية مع الإبقاء على حالة من التفكك الأيديولوجي.
ومن بين الآليات التقنية التي يُؤخذ بها على هذا النظام والتي ساهمت في عزوف المواطنين:
- مركزية السلطة والقرارات المتعلقة بعملية الإنتخاب والتصويت
- إنشاء أحزاب سياسية لأغراض ظرفية،
- طرق التسجيل في اللوائح الانتخابية،
- إجراءات التصويت،
- إقحام شخصيات بلا خلفية سياسية،
- التقطيع الانتخابي،
- نظام تمويل الأحزاب،
- تعدد مكاتب التصويت،
- التحكم في الوصول إلى وسائل الإعلام العمومية،
- تقنيات عدّ وفرز الأصوات وإعلان النتائج،
- تدبير ترحال المرشحين بين الأحزاب بشكل موجَّه،
- استعمال المال – بما فيه الحرام – وشراء الأصوات على نطاق واسع، إلخ.
- المجتمع المدني: استقلالية، استيعاب وتدجين
4.1 الجمعية المغربية لحقوق الإنسان (AMDH)
تأسست سنة 1979 وحافظت على خطاب نقدي رغم كل الصعوبات التي واجهتها: رفض الاعتراف الإداري، قطع التمويل، إغلاق الفروع، ومضايقة المناضلين.
4.2 المنظمة المغربية لحقوق الإنسان (OMDH)
أُنشئت سنة 1988، واتجهت تدريجياً نحو المؤسساتية والتسوية مع الدولة. تترأس أمينـة بوعياش حالياً المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ما يعتبره البعض تطبيعاً مدنياً.
4.3 صعود «الـGONGO» (المنظمات غير الحكومية الموالية للدولة)
شجّعت الدولة على إنشاء جمعيات متماشية مع خطابها الرسمي، مما خلق احتكاراً للسردية وحرم الفاعلين المستقلين من الموارد ومن خطابهم الأصيل.
- الرهانات والآفاق
5.1 التمييع الأيديولوجي
التجزئة الحزبية، تدجين الجمعيات، والترويج الرسمي للإسلاميين وآليات تدبير الشأن العام جعل اليسار مهمشاً، عاجزاً عن حمل مشروع تحرري متماسك.
5.2 التحديات المؤسساتية
إعادة بناء اليسار تتطلب عودة صريحة لمبادئه، إحياء الديمقراطية الداخلية، بناء تحالفات قاعدية، وربط الجسور مع المجتمع المدني المستقل.
5.3 الشباب والحركات الاجتماعية
كشفت حركات مثل حراك الريف (2016–2017) أزمة بنيوية أعمق من قدرة الأحزاب التقليدية ليبقى السؤال: هل يستطيع اليسار أن يتحرك خارج المؤسسات، ويستعيد الفعل المباشر، ويعيد التفكير في تحالفاته؟
5.4 تقاطعات متناقضة: تحالفات تكتيكية بين اليسار الراديكالي والإسلاميين
ما كان مستحيلاً زمن الانقسامات الحادة أصبح واقعاً: بعض فصائل اليسار الراديكالي تنسّق مع تيارات إسلامية ضد الدولة. هذه التقاطعات لا تقوم على قناعة مشتركة بقدر ما تنبع من خصم مشترك.
لكن الهوة الأيديولوجية باقية، خصوصاً حول حقوق المرأة والعلمانية والحريات الفردية، مما يجعل هذه التحالفات هشة ومثيرة للجدل.
خاتمة
نُخرت بنية اليسار من الداخل بفعل تآكل هياكله، وأُضعفت من الخارج عبر دولة روّجت بدقة لبدائل أيديولوجية لاحتواء طموحاته، مع هندسة إدارية و«ديمقراطية مُدارة».
أصبح الإسلام السياسي المراقَب أداة لتقوية النظام.
فمستقبل اليسار المغربي مرهون بقدرته على تجاوز هذا الإرث، استعادة وضوحه الأيديولوجي، شرعيته الاجتماعية ورؤيته للتجديد، إضافة إلى قلب آليات العملية الديمقراطية لصالح مشاركة فعلية.
ولإن لم يُعِد اليسار بناء ذاته أخلاقياً، استراتيجياً وأيديولوجياً، فإنه لن ي سوى هامش في التاريخ السياسي للمغرب.
مراجع
- Wegner & Pellicer, Left–Islamist Opposition Cooperation in Morocco, BJMES, 2011
- Bensalah Alaoui, Morocco’s Security Strategy, Mediterranean Politics, 2017
- Maghraoui, Islamism in Morocco, Markus Wiener
- Is the Moroccan Left Experiencing an Organizational and Ideological Crisis?, Islamic Societies Review, 2021
- تقارير ومقالات من: الجزيرة، إيـكوال تايمز، ميدل إيست آي
عبد اللطيف زكي
الرباط، 17 يوليوز 2025



