Hot eventsأخبارأخبار سريعةثقافة و فن

معلَّق فوق الهاوية

لا أدري متى بدأ الحُلم. ولعلّه ليس حُلماً أصلاً. كلّ ما أعلمه أنّني هنا، معلَّق بيدٍ واحدة على قضيبٍ من حديد يرتفع ببطءٍ في الفراغ. جسدي يثقلني، كفّي تحترق، والعرق يتقاطر فيجعل قبضتي أوهى وأوهى، حتى كأنّ خيانتي تأتي من لحمي نفسه.

لم أتذكّر كيف دخلتُ إلى هذا المشهد. وجدت نفسي معلَّقاً منذ البدء، والعمود يرتفع ببطء كأنّ له إرادة خاصّة. أصابعي تتشبّث به بهلع المحكوم، غير أنّ العرق الخائن حوّل كفّي إلى منحدر زلق. وكلّ لحظةٍ تزيد يقيني: لا بدّ أنني سأفلت.

تحت قدمي كانت الهاوية تنتظر: جمرٌ يتنفّس كرئات مشتعلة، أفاعٍ تتلوّى في رقصٍ أبكم، أوتادٌ منتصبة كأعمدة هيكلٍ مقلوب، ليس للحياة بل للسقوط، هيكلٍ نُذِر لهلاكي. ولم يكن المشهد ساكناً؛ كان يتشكّل ويتحوّل. النيران تصير وجوهاً وعيوناً عاتبة، الأفاعي ذكريات منسيّة، والأوتاد حقائق ناصعة تنهض لتمزّق وهم مقاومتي. أدركت أنّ الهاوية ليست تحت جسدي، بل في داخلي، مرآة لمخاوفي القديمة.

فجأةً صعقني نورٌ من وعي: إنّه حلم. أجل، علمت ذلك بصفاءٍ بارد. غير أنّ العلم لم يحرّرني، بل شدّد قيودي. أن تعلم أنّه حلم ولا تملك كسره أو تغيير مجراه، فذلك سجن أضيق من كلّ سجن.

أي سخرية هذه! وعيٌ بالعجز لا يختلف عن يقظة الحياة نفسها: يدٌ مشدودة إلى خيط العمر، يقين بالسقوط، وإصرار على رفضه. أهو الحلم إذن صورة للحياة ذاتها؟ مجرّد وعيٍ متشبّث بقضيبٍ ينزلق، فوق هوّةٍ لا بدّ من نهايتها.

وظلّ العمود يرتفع. أو لعلّ الأرض كانت تهوي وتبتعد. لم أعد أفرّق. يدي تنزلق، لكن الخيانة لم تكن منها، بل من الزمن نفسه: سائلاً، متفلّتاً، يثقل لحظةً بعد لحظة، ودقّةً بعد دقّة قلب، حتى يغدو كلّ نفسٍ هزيمةً معلَنة.

همَس خاطري : ربما السقوط ليس نهايةً بل عبور، والنار نورٌ لا عذاب، والأفاعي تحمل حكمةً قديمة، والأوتاد أعمدةُ عالمٍ لم أتعلم اسمه بعد. لكنّ الخوف عاد فجأة، فمزّق هذا الوهم الرقيق. فالحكمة في الأحلام قاسية: تفتح أبواباً وتغلقها في اللحظة ذاتها.

بقيت معلَّقاً، في البرزخ بين يقينين متناقضين: إن تركت، سقطت؛ وإن تشبّثت، سجنتني أبدية معلَّقة. لعلّ الجحيم الحقّ ليس السقوط، بل الانتظار بلا نهاية، بين رغبة الإفلات ورعب التخلّي. فالسقوط موت، والبقاء موتٌ آخر — موت بالانتظار، بالإعياء، بالزمن الأبدي المترامي.

وربما كان كلّ شيءٍ مكتوباً من قبل. لعلّ المشهد ليس حلمي وحدي، بل صورة لمستقبلٍ يتسلّل بخطى الذئب. لعلّي سقطتُ منذ البدء، وما هذا النصّ إلّا صدى لتلك السقطة.

لم ينته الحُلم. أو ربما انتهى. بل لعلّني لا أزال أحلم الآن، وأنّ هذا العالم امتدادٌ للهاوية نفسها، وأنّ هذا النصّ قطعة من الكابوس ذاته، يعيد نفسه بلا نهاية، حتى اللحظة التي تفلت فيها يدي حقّاً. وإن أصغيت، كأنّي أسمع بعد انزلاق جلدي، قطرةً بعد قطرة، نحو اللحظة الأخيرة.

فلا تقلقوا عليّ، فربما ليس هذا إلّا المستقبل يتسلّل إلى نومي… واحذروه لعله تسلل إلى نومكم كذلك …

مترجم عن الفرنسية

عبداللطيف زكي
الرباط، في 19 غشت 2025

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button