
في زمن استأسد القط، واستنسر الغراب، واستفحل الظلم، وأصبح القانون يخدم القوي ويخذل الضعيف، وماتت الإنسانية وقبرت، وساد الصمت وتواطأ القريب قبل البعيد، رأينا شعبا بأكمله يعاقب على جريرة لم يرتكبها، لكن حجة القوي جانيك من يجني عليك، وربما تجني الصحاح مبارك الجرب، فرب مأخوذ بغير جريمة ونجى منها صاحب الذنب.
إن استراتيجية الحرب الحديثة التي انتهجها كيان غاصب ظالم، لم تعد تقتصر على استخدام السلاح والرصاص، والدبابات والطائرات فقط، بل الحرمان من الموارد الأساسية مثل الطعام والماء والدواء، حيث اعتبر السبيل الأنجع عند كيان مغتصب للقتل البطيء، فأصبح التجويع سلاحا لا يقل فتكاً عن الأعمال العسكرية، بل هو أشد قسوة، إذ يستهدف الحياة اليومية للمدنيين، محوّلاً الحاجة الأساسية للبقاء إلى “وسيلة ضغط” و”إخضاع”؛فمع استمرار الحصار والقصف، حرمت آلاف العائلات من الوصول إلى الغذاء والماء والدواء، فأفضى هذا السلوك اللاإنساني إلى تسجيل يومياً وفيات جراء التجويع وسوء التغذية، خصوصاً بين الأطفال، ولهذا وصفت منظمات أممية مواقع توزيع المساعدات هذه الحرب ب”مصائد موت سادية”؛ من ثم تُشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أن الوضع الغذائي في قطاع غزة بلغ المرحلة الخامسة (كارثية) وفق تصنيف “آي بي سي” (IPC) العالمي لانعدام الأمن الغذائي، وهي أعلى درجات التصنيف، تُشير إلى خطر المجاعة.

ووفقاً للتقييم الصادر في مايو 2025، فإن نحو 470 ألف شخص – أي ما يعادل ربع سكان القطاع – يعانون من جوع كارثي، بينما يعيش باقي السكان بين مرحلتَيْ الأزمة والطوارئ الغذائية؛وفي ظل هذا الواقع القاتم، جعلت غزة العزة بين المطرقة والسندان، فأضحى سكان غزة يواجهون معركة مزدوجة: النجاة من القصف، والبحث عن لقمة عيش مفقودة، وقد وصف هذا المشهد في القطاع المحاصر جوناثان ويتال، رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بقوله: “ما تشهده غزة ليس مجرّد جوع، بل سياسة تجويع مدروسة”، أضف إلى ذلك شهادات منظمات دولية أخرى مثل أونروا وأوكسفام و”أنقذوا الأطفال”، التي أكدت على أن أكثر من 90 في المئة من سكان القطاع يعيشون في مواجهة حادة مع تأمين لقمة العيش، وتنبه التقارير نفسها إلى أن الآلاف من الأطفال عرضة للوفاة بسبب نقص الغذاء والدواء في وضع إنساني بات فعلياً “من صنع البشر”.
كما أكدت تقارير مجلس الأمن الدولي، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، وبرنامج الأغذية العالمي، أن الحصار والتجويع أصبحا استراتيجيات عسكرية “ممنهجة”، تُستخدم لإخضاع المجتمعات عبر تدمير منظومة حياتها اليومية، وليس مجرد آثار جانبية للحرب؛ وقد أعربت دولة الكيان الصهيوني الغاصب عن هدفها من هذا الحصار الظالم، وأكدت على أن عملها الشنيع ليس عقاب السكان المدنيين، بل منع حماس من استخدام الموارد (كالطعام والدواء) لأغراض عسكرية أو كغطاء لـ”النشاطات الإرهابية”، واتهمت معاهد أبحاث إسرائيلية، مثل INSS وUN Watch، الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بنشر “رواية مضللة” تستند إلى بيانات غير كاملة أو قديمة؛وفي المقابل هناك إجماع أعضاء الأمم المتحدة من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2417 الصادر عام 2018 شكل اعترافاً دولياً بأن الجوع لم يعد أزمة إنسانية فقط، بل جريمة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالنزاع، ومع ذلك، يقول المؤرخ والباحث الدكتور عصام خليفة، وهو يتحدث عن الإفلات من العقاب، وغياب الإرادة السياسية للمحاسبة، “يمنح الجناة غطاءً للاستمرار في استخدام هذا السلاح الصامت الذي يفتك بالأمل والحياة في المكان المنكوب”.
فالتجويع الممنهج والمنظم في الحرب هو الاستخدام المتعمّد لحرمان السكان المدنيين من الغذاء والماء، بهدف الضغط على الجهات المسؤولة عنهم -سواء كانت منظمات أو دول -وإجبارها على الخضوع سياسياً أو عسكرياً، وبالتالي يُعد جريمة مدانة في القانون الدولي، ويُصنَّف ضمن أساليب الإبادة الجماعية بحسب الاتفاقيات الدولية، وقد استُخدم التجويع كسلاح لـ”إخضاع الشعوب”، كما حصل في جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى، وفي مجازر الأرمن والآشوريين، ولاحقاً في البوسنة والهرسك، وفي كل هذه الأحوال كان الهدف تفكيك النسيج المجتمعي، ودفع السكان إلى النزوح أو الخضوع القسري”، وفق ما ذكره المؤرّخ والأكاديمي عصام خليفة؛ ومن منظور تاريخي، يشير د. خليفة إلى أن التجويع لا يُستخدم فقط كأداة قتل، بل كوسيلة لإعادة رسم الجغرافيا السكانية والسيطرة على القرار السياسي للسكان؛وفي إطار القانون الدولي، هناك عدة اتفاقيات تحظر استخدام التجويع كسلاح وتحذّر من وقوعه في أي حرب:
•اتفاقيات جنيف من عام 1949، والبروتوكول الإضافي الأول، عام 1977: تحظُر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، وخاصة ضد المدنيين؛
•نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، عام 1998: يعتبر “تجويع السكان المدنيين عمداً” جريمة حرب، إذا كان يتم عبر منع الإمدادات الضرورية لبقائهم؛
•قرار مجلس الأمن 2417، عام 2018: يدين استخدام الجوع كسلاح، ويربط بين الصراعات المسلحة، وانعدام الأمن الغذائي، وخطر المجاعة؛ورغم وضوح النصوص القانونية، فإن المحاسبة تبقى عالقة بسبب غياب الإرادة السياسية الدولية، خاصةً حين يكون هناك دعم من قوى كبرى، مثل الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وتواطؤ الدول الحليفة للكيان الغاصب، التي رفع عنها القناع بسبب هذه المحنة التي تعيشها غزة العزة ومناطق أخرى في فلسطين؛ هذا باختصار التوصيف القانوني للحصار الغذائي المضروب على أهل الغزة الأشاوس والأبطال.
ولبيان الموقف الشرعي لما يقوم به الصهاينة الساديون من تجويع طائفة من المسلمين، فإن مثل هذا الفعل محرم شرعا، بل هو من أكبر الكبائر، كما أنه مجرم قانونا وعرفا وعقلا، ولا يدرى إلى أي مدى انسلخ هؤلاء الذين يحاصرون المدنيين من الرجال والنساء والصبيان، فيمنعونهم أقل حقوقهم الإنسانية من الطعام والشراب والحاجات الضرورية التي لا غنى للحيوان عنها، فضلا عن الإنسان، وقد نص الفقهاء على أنه لا يجوز لإنسان أن يمنع عن آخر طعاما أو شرابا، حتى وإن كان مسجونا، فإنه يجب عليه أن يدفع إليه الطعام والشراب وما تقوم به حياته، فالإسلام جعل من أهم مقاصده العظمى حفظ النفس، ضمن الضروريات الخمس الأخرى، وهي حفظ الدين والعقل والعرض والمال، وحرم قتلها بأي وسيلة مادامت نفسا محترمة، فالواجب على المسلمين إنقاذ إخوانهم في الدين والعقيدة والملة والعروبة بإنهاء هذا الحصار الجائر من الظالم؛فما أشبه الليلة بالبارحة، فأعداء الله في كل زمان ومكان يحاربون الإسلام وأهله، كما قال الله تعالى: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ))، (البقرة: من الآية217)، وهم يستخدمون في ذلك من الأساليب ما يتشابهون فيه قديما وحديثا، ومن ذلك أسلوب الحصار والمقاطعة والتجويع؛وقد تعرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمحن كثيرة، وحورب بأساليب شتى، فقريش أغلقت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وتعرضت بالإيذاء والتعذيب، والسخرية والاستهزاء للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، ثم حوصر بعد ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته ثلاث سنوات في شِعب أبي طالب، وقد صاحب ذلك الحصارـ الاقتصادي والاجتماعي ـ جوع وحرمان، ونصب وتعب شديد.
ومع ذلك كله فرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مضى في طريق دينه ودعوته، وصابر لأمر ربه، ومعه أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ لكن الحمية والرأفة أخذت نفرا من رجال قريش – علما أنهم لم يكونوا من أتباع دين الإسلام – فتعاهدوا على نقض هذه الصحيفة الظالمة، وسعوا في ذلك حتى نقضت، وهؤلاء النفر هم: هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وزهير بن أبي أمية المخزومي، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، والمطعم بن عدي، وقد كانت هذه المقاطعة قمة الأذى والظلم الذي لقيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه طوال سنوات ثلاث، ومع ذلك كان فيها من الخير والدروس والعبر الشيء الكثير؛ فالصبر والثبات درس هام من دروس هذا الحصار وهذه المقاطعة، فقد تجرع الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ مرارة هذا الحصار الشديد، فكانوا يأكلون ورق الشجر وما يجدونه، حتى قال سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ: ” خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا “، ومع ذلك صبروا وثبتوا، فكانت تربية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهم على الصبر عاملاً مهماً من عوامل الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، فالنصر مع الصبر، والبلاء سُنَّة ماضية، وأهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً وإعداداً، وكذلك اقتدى أهل الغزة العزة – رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا – برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أنهم جعلوا علف الدواب خبزا لهم يردون به جوعهم وحاجتهم.
فواجب الأمة – حكاماً ومحكومين- تجاه ما يقع في غزة، تقديم الدعم المادي والمعنوي والمقاطعة الاقتصادية والسياسية للطرف المعتدي، والمناشدة بالحلول السياسية والدبلوماسية، والضغط على الحكومات والمؤسسات الدولية، إضافة إلى الدور الدعوي والسياسي والإعلامي، وكل ذلك في حدود الإمكانات المتاحة، وأن كل قطرة تسال من دماء الأطفال والنساء والشيوخ سوف يسألون عنها بين يدي الديان يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((المسلمونَ تتكافأُ دماؤهُم ويسعى بذمَّتِهم أدناهُم ويردُّ عليهم أقصاهُم وهم يدٌ على من سواهم ولا يُقتَلُ مسلمٌ بكافرٍ ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ))، فهذا الحديثُ بمَنزلةِ القَواعدِ والأصولِ لتعامُلِ المسلمين فيما بينهم، وفيما بَينَهم وبينَ غيرِهم، وإذا أعطى أحدٌ مِنَ المسلمين عهْدًا وذِمَّةً لغيرِ مسلمٍ، ولو كان ذلك من عبْدٍ أو أَمَةٍ وَجَبَ على باقي المسلمين أنْ يُوفُوا له عهْدَه.



