قراءة عاشقة في قصيدة: وصية من تحت الركام للدكتور حسين حموي

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي
قصيدة وصية من تحت الركام تندرج ضمن ما يمكن تسميته شعرية الوجدان والوجود معًا، فهي ليست مجرد خطاب رثائي أو وصية عابرة، بل هي نص يحفر في العمق الإنساني حيث تتقاطع براءة الطفولة مع رهبة المصير. منذ البداية، يضعنا الشاعر أمام زائر غامض يعلن قدومه، لكنه يظل مستترًا لا يسمّى، مما يمنح النص أفقًا مفتوحًا على التأويل. إن البناء اللغوي المعتمد على ضمير الغائب والتكرار المستمر لأفعال المستقبل ـ سيجتاحنا، سيأتي بغتة، سيسابقنا ـ يرسّخ في ذهن القارئ حتمية القدوم، ويعمّق الإحساس بالقدر المحتوم.
جمالية النص هنا تنبع من الغياب أكثر مما تنبع من الحضور. فالمعنى ليس في ما يُصرَّح به، بل في ما يُخفى خلف السطور. ولهذا يظل القارئ معلقًا في شبكة من الدلالات الممكنة: قد يكون الزائر موتًا يتربص، أو فرجًا يقترب، أو بشرى مفرحة، أو حضورًا غيبيًا مطمئنًا، أو حتى طيفًا شخصيًا ينتظر الشاعر عودته. كل هذه الإمكانيات تبقى قائمة، والنص لا يحسم في واحدة منها، بل يترك الباب مشرعًا لتعدد التأويلات. وهنا تبرز حداثة التجربة الشعرية، حيث يصبح النص نصًّا مفتوحًا، يشارك فيه القارئ بإعادة إنتاج معناه.
ومع الانتقال في بنية القصيدة، يأخذ الغياب بعدًا أكثر كثافة. فالزائر لا يعنيه الوقت، لا يستأذن، يدخل إلى كل بيت بلا أبواب. إن حضور الزمن يتلاشى أمامه، فلا لحظة يمكن أن تسبق مجيئه ولا لحظة تستطيع تأجيله. في هذه الصور يختلط الرعب بالطمأنة، إذ يوصي الشاعر بالاستسلام والابتسام في حضرة المجهول. هذه المفارقة تكشف عن بعد صوفي عميق، حيث يصبح التسليم للغيب فعل حكمة، والرضا أمام القدر شكلاً من أشكال السلام الداخلي.
ثم تتصاعد التجربة في لحظة فلسفية فارقة: لسنا نحن المقيمين في هذا العالم، بل نحن الزائرون، أما هو ـ الغائب الحاضر ـ فهو الساكن الدائم. في هذا الانقلاب الدلالي تكتسب القصيدة أبعادًا وجودية تتجاوز لحظة الركام والفاجعة إلى سؤال الكينونة برمّته. فالموت هنا ليس النهاية بل الثابت الذي لا يتغير، فيما الحياة ليست سوى زيارة عابرة. إن هذه المفارقة تمنح النص طابعه الكوني، وتجعله متجاوزًا للحدود الفردية والجماعية، صالحًا لأن يُقرأ في كل سياق إنساني.
القيمة الجمالية في هذا النص تتجلى إذن في عدة مستويات: في الموسيقى الداخلية التي يخلقها التكرار والتوازي، في الصور الشعرية المليئة بالمفارقة والتوتر، في التناوب بين صوت الطمأنة وصوت الرهبة، وفي الانفتاح التأويلي الذي يجعل كل قارئ يرى فيه ما يشبه تجربته الخاصة. إنه نص يترك أثرًا في النفس لأنه لا يقدّم جوابًا نهائيًا، بل يتركنا في مواجهة سؤال لا ينغلق.
كما تقول نظرية الشعر الحديث ” التي يذكرها فضيلة الدكتور الناقد نورالدين اعراب الطريسي حسب روادها ونقادها المعاصرين من أصحاب السيميائيات المعاصرة وتحليل الخطاب .
أمثال امبرتو ايكو وبول ريكورد .. وريتشارز ..وغيرهم كثير
ذاك أن جمالية الشعر يضيف” الدكتور نور الدين اعراب الطريسي” تكمن في ما يخفيه عنا الشاعر من معاني ودلالاته خلف السطور أكثر مما يصرح به ” انتهى”
وبذلك يمكن القول:
إن وصية من تحت الركام قصيدة تزاوج بين الوجدان والتأمل الفلسفي، بين الرثاء والوصية، بين الأمل والموت. إنها نص يخرج من تحت الركام لا ليبكي على الخراب فحسب، بل ليمنح للوجود معنى جديدًا، حيث يتحول الغياب إلى حضور دائم، ويتحوّل الفناء إلى شكل آخر من أشكال البقاء.
…
وختاما ادعو القارئ لتنسم نفحات عطرة في قصيدة الشاعر الدكتور حسين حموي
وصية من تحت الركام
وهذا نصها:
. وصية من تحت الركام
سَيَجتاحُنا يومًا…لا تَعْجَلْ يا صغيري
سَيأتي بَغتةً، استقبِلْه وابتَسِمْ…
لا تَجزَعْ من زائرِ الليل
تحت شمسِ الظَّهيرة، أو في الفجرِ العليل،
لا يعنيهِ الوقتُ عادةً.
سَيُسابِقُنا… لا تُحاوِلْ مُجاراتَهُ … لَنْ نَسْبِقَهُ.
اِرْتَمِ في حِضْنِه…
استسلمْ في هُدوءٍ، وابتسمْ.
إنَّها الثَّالثةُ…
لا تُسْرِعْ، ما زال هناكَ وقتٌ،
دقيقةٌ، أو أكثرُ قليلاً…
سَيأتي…
سَأبقى مُنتَظرًا هنا.
لَنْ يقرَعَ البابَ
فهو لم يعتَدْ أنْ يَستأذِن فكلُّ البيوتِ بُيوتُه
كلُّ الدِّيارِ دِيارُه.
ليس غريبًا…نحنُ الزائرون،
إنَّهُ الساكنُ المُقيمُ بيننا
لكنَّنا لا نُدرِك.
اِرحَلْ سريعًا إنِ استطعتَ…
سَتَرحَلُ إليه.
…



