بين الجنازة والمقهى… رحلة في ذاكرة الفقد

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي
ليس من السهل على القلب أن يحتمل وقع الفقد حين يختطف الموت قريبًا عزيزًا، فما بالك إذا كان الراحل شخصية ذات وزن الحاج مصطفى حجازي وابن عمّ، أديبًا، فاعلًا جمعويًا وسياسيًا، ووجهًا لامعا في محيطه المحلي والوطني. كان رحيله أشبه بانطفاء شعلةٍ طالما أنارت دروبًا كثيرة، وأثّرت في قلوب الناس بأدبه وعطائه وحضوره الإنساني.
حضرتُ جنازته بقلبٍ مثقل، وكان المشهد أكبر من أن يُحتمل؛ جموعٌ من المحبّين، دموعٌ تترقرق في العيون، أصوات الدعاء تتردّد في السماء، وصمتٌ رهيب يخيّم على النفوس. أحسستُ أن الأرض ضاقت بما رحبت، وأن السماء وحدها تتسع لروحٍ طاهرةٍ أرهقها السفر الطويل. حاولت أن أكتم دمعتي كي لا أضعف أمام الآخرين، فانسللت بخطى متثاقلة إلى المقهى التي كنت أجلس فيها منذ سنوات، بعد غيابٍ طويل عنها.
دخلتُ المقهى كأنني أبحث عن ملاذٍ يخفّف من وطأة الحزن. المكان ما زال كما عهدته: الطاولات ذاتها، الكراسي ذاتها، رائحة القهوة تعبق في الهواء، والجدران تشهد على أحاديث لا تُنسى. لكن الوجوه كانت غريبة، ملامحها لا تربطني بها صلة. جلستُ في ركنٍ قصيّ، أتأمل المكان بعيونٍ تفيض بالذكريات. أدركتُ حينها أن الأماكن ثابتة، لكنها تتغير بغياب أصحابها؛ فالمقهى الذي كان يعجّ بالحياة لم يعد سوى مرآةٍ تعكس غربتي ووحدتي.
الطاولات والكراسي أيقظت في داخلي ذكرى أخي، وبن عمّي، وأصدقاء العمر الذين سبقوني إلى العالم الآخر. رأيتهم واحدًا واحدًا يجلسون حولي كما كانوا من قبل، يبتسمون، يتحدثون، يملأون الأجواء دفئًا وبهجة. لكن سرعان ما انطفأت الصورة، وعاد الصمت يخيّم، كأن الموت يسخر من ذاكرتي ويذكّرني أن لا شيء يدوم.
وقفتُ من مكاني وأنا أجرّ خطواتي المرهقة، أتمتم بدعاءٍ يخرج من أعماق القلب: رحمهم الله جميعًا، هم السابقون ونحن اللاحقون، ولا يدوم إلا وجه الله الكريم. وبينما كنت أردد هذه الكلمات، شعرتُ أن الحزن لم يعد مجرد شعورٍ عابر، بل أصبح جزءًا من كياني، يسكنني كلما مررتُ بمكانٍ جمعني يومًا بمن رحلوا.
خرجتُ من المقهى إلى الشارع، فإذا بي أرى المدينة بثوبٍ جديد، ثوب الحداد. الطرقات التي كانت تضجّ بالحياة بدت صامتة، والبيوت المضيئة خيّلت إليّ أنها تبكي مع أصحابها. كان داخلي ينقسم بين عالمين: عالم الذاكرة حيث الأحبة ما زالوا يجلسون إلى جانبي، وعالم الواقع حيث لا يبقى منهم إلا ذكراهم الطيبة وأثرهم العابر في الحياة.
لقد علّمتني هذه التجربة أن الحزن هو الوجه الآخر للحب، وأن رحيل الأحبة لا يقطع الحبال التي تربطنا بهم، بل يمدّها إلى الغيب، حيث يبقى الأمل بلقائهم في دارٍ لا فراق فيها. إنهم لم يرحلوا تمامًا، فهم يسكنون أرواحنا، ويتجسّدون في تفاصيل حياتنا الصغيرة؛ في رائحة قهوةٍ تشبه قهوتهم، في كرسيٍّ شاغر كان لهم، في كلمةٍ اعتادوا قولها، أو حتى في لحظة صمتٍ عابرة.
وهكذا، بين جنازةٍ ودّعتُ فيها ابن عمّنا العزيز، ومقهىً أعدت اكتشافه بعين الحزن، أدركت أن الحياة ليست سوى رحلة قصيرة، نملأها بالحب والذكرى، ثم نمضي. يبقى منّا أثرٌ طيب وكلمةٌ صادقة وابتسامةٌ عالقة في القلوب. أما نحن، فلا مفرّ لنا من أن نكون اللاحقين، حيث لا يبقى إلا وجه الله الدائم.



