

قراءة بسيطة في الواقع السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوت الشعبية، تحيلنا بسرعة على حقيقة مفادها أن الحزب لم يتمكن منذ عقدين أو يزيد من تجاوز الخلافات التي تفاقمت مع دخوله الحكومة وما نتج عن هذا الدخول من نزاع وتصادم بين تيارات ثلاثة يمكن حصرها في تيار “الواقعية الجديدة” ويمثله أنصار الراحل عبد الرحمان اليوسفي الذي بنى رمزيته التاريخية على مساره النضالي الكبير، وتيار المعتدلين أو ما يمكن تسميته بتيار “يمين اليسار” ويقوده أتباع محمد اليازغي من أطر تمثل البورجوازية الصغيرة والمتوسطة، والتيار المتشدد (يسار اليسار) الذي يتبنى نظرية “التصادم” الثوري مع الرأسمالية، ويدعو إلى إعطاء الدولة الدور الأساسي في الاقتصاد على حساب المبادرة الخاصة.
لا مجال للتجادل اليوم في كون الوضعية السياسية التي يعيشها الحزب تفرض عليه تحولا تاريخيا (ربما يكون “قاسيا” ولكنه جد مثمر سياسيا واجتماعيا)، يمكّنه من صياغة رؤية حديثة، تضفي عليه حلة التنظيم الديمقراطي القريب من التنظيمات الليبرالية، وتجعله يتعامل بقدر أكبر من الواقعية مع مشاغل المغاربة.
وقد زكى الزعيم الاشتراكي الراحل، الفقيه البصري، هذا التوجه بقوله :”لم تعد غالبية الناس تفهم توجه الحزب لأنه توجه يكتنفه الغموض ولم يعد لا واضحا ولا دقيقا”. وكلام الفقيه البصري هو ترجمة واقعية للشعور المتزايد لدى العديد من مناضلي الحزب بضرورة أن تستجمع القيادات قواها وتعود إلى سطح الأحداث بحثا عن “قضية”. وجوهر القضية هو بالتأكيد الانتخابات التشريعية والجماعية القادمة التي قد تعصف بكيان الحزب في حال هزيمته، وتكرس الانقسام بين المجددين المنادين باشتراكية ليبرالية والمحافظين الصقور المتشبثين بخط اليسار.
لا مجال للتجادل اليوم في كون الوضعية السياسية التي يعيشها الحزب
تفرض عليه تحولا تاريخيا (ربما يكون “قاسيا” ولكنه جد مثمر سياسيا واجتماعيا)،
فالصراع داخل الحزب هو بين المتشددين الذين يرفضون المس بالثوابت الاشتراكية وبقيمها “العتيقة”، وبين المجددين الراغبين في احتلال مواقع القيادة والقائلين بأن الصقور القدامى لا يملكون من المرونة والقراءة النقدية ما يساعد على تطوير الحزب بمنظور يقيم علاقة تجاذبية مع تحديات العولمة ومجتمع اليوم. وهو ما يعني تحديدا، أن التيار الثاني يريد تجديد الحزب فكريا في اتجاه التحالف مع يمين الوسط لقطع الطريق أمام حاملي مشعل الإسلام السياسي، “البيجيديين”، ومع التيارات ايمينية الأخرى.
وملخص فلسفة المجددين أنه لا توجد مواضيع خاصة باليمين الوسطي وأخرى باليسار، وأن الاتفاق يمكن أن يتم بين الاثنين بغض النظر عن تياره السياسي، وكذا ضرورة أن يتم التحالف بين يسار عريض واليمين التقليدي الوسطي.
ويجد بعض أنصار هذا التوجه تبريرات مقنعة حينما يؤكدون أن اليسار المتشدد لا يتقدم منذ أربعين سنة، وأن تحالف الحزب مع أحزاب “يسار اليسار” لن يكسبه شيئا على اعتبار أن هذه الأحزاب مجتمعة لن تحصل، برأيهم، على أكثر من 3 إلى 5 في المئة من أصوات المغاربة في الاستحقاقات القادمة، وليس أمام الاتحاد الاشتراكي سوى التحالف مع قوى أخرى وخاصة اليمين التقليدي (يمين الوسط المتمثل في حوب الاستقلال).
ويأخذ التيار الإصلاحي على المتشددين المحافظين غياب ثقافة الإنصات، وافتقارهم للمرونة اللازمة للتعامل مع مستلزمات العولمة الليبرالية، فضلا عن تضخيم ثقافة “الأنا الحزبية” التي كرست الثنائية التخوينية القائمة على إما “اشتراكي متشدد أو رجعي”، وهي ثنائية بقدر ما خلقت حالة من التحارب الداخلي، ضيعت على الحزب عقدين من الحكم وتدبير الشأن المغربي.
وأستحضر في هذا السياق موقف عمدة باريس السابق، وأحد زعماء الاشتراكية الأوربية، بيرتران دولانوي، الذي كان أول من بادر إلى دق ناقوس خطر الاشتراكية العالمية التي تعيش على أمجاد شعبية وهمية، وذلك في كتابه الأخير “الجرأة” الذي بنى فيه اشتراكيته الجديدة على قاعدة “الاقتصادي قبل الاجتماعي”، بمعنى أن تحسين تنافسية شركات فرنسا وصناعاتها، تسبق مسألة تحسين أوضاع الأجراء. “أنا ليبرالي ديمقراطي واشتراكي معا، ولا أرفض بشكل ميكانيكي كلمة ليبرالي، بل أعتبرها مجدية ومفيدة للاشتراكية نفسها. غير أني أرفض كباقي التقدميين أن نجعل من الليبرالية سندنا الاقتصادي، وأن نُفرط بشكل نهائي في دور الدولة وما قد ينجم عن غيابه من تسيّب تجاري واقتصادي. ويختصر دولانوي رؤيته “بأن الليبرالية الإنسانية، ستدخُل معجم الاشتراكيين في القرن الحادي والعشرين، عندما يكفون عن النظر إلى كلمة منافسة، ومضاربة كمفردات فارغة وعقيمة”.
وفي ظل الجمود والانقسامات الداخلية التي زاد من حدتها الصراع على مواقع القيادة، يذهب البعض إلى القول، في ما يشبه النقد الذاتي، إلى إن الاتحاد الاشتراكي بات اليوم في مواجهة اختيار واضح، إما أن يعمل على تحديث مواقفه بحيث يصبح اقرب إلى الواقعية السياسية، ومنها إلى فهم أعمق للانشغالات المجتمعية، أو يتقوقع في الاشتراكية المحافظة بمفاهيمها البالية، ويدخل في قطيعة مع المغاربة قد تقضي على ما تبقى لديه من وزن سياسي ومن شعبية باهتة، وخاصة في أوساط الشباب والفئات الاجتماعية المتوسطة.
دعوة حثيثة إذن إلى قادة الاتحاد الاشتراكي بأن يفكروا كيف يرصون صفوفهم، وكيف يحولون الحزب إلى قوة ديمقراطية فاعلة ومؤثرة، علما أن الاتحاد الاشتراكي ليس حزبا عاديا كباقي الأحزاب، حيث التاريخ يشهد له بالمعارك السياسية الكبرى التي خاضها من أجل مؤسسات ديمقراطية حقيقية، انتصر في بعضها وسقط في أخرى. ولا يمكن لأحد، مهما كان، أن يحجب عن المغاربة صفحات مشرقة من نضال رجالاته من أمثال المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون وعبد الرحمان اليوسفي وغيرهم..



