غير مصنف

صلاة على الغائب: رثاءٌ للثقافة والإبداع في زمن الرداءة

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي

لم تعد الثقافة في بلادي اليوم مائدةً يتقاسم عليها المبدعون خبز المعنى وملح الرؤى، بل تحوّلت إلى فتات كلمات باردة تتناقلها المنابر، وتسوّقها المهرجانات كما تسوّق المتاجر بضائعها في مواسم التنزيلات. القصة التي كانت في يوم ما أفقًا إنسانيًا مفتوحًا على الحلم والأسئلة الكبرى، اختُزلت في «بوست» أو تغريدة أو ومضة تسويقية لا تحتمل أكثر من بضع كلمات. أمّا الشعر، فصار «جملًا مركّبة» بلا روح ولا ظل، يتناسل في فضاءات التواصل كما تتناسل الصور الممسوخة، بلا ذاكرة ولا أفق، وبلا ذاك الشغف الذي كان يجعل القصيدة قبلةً للأرواح التائقة إلى الجمال.


النقد الذي كان من قبل «ضمير الإبداع» أصبح هو الآخر مريضًا بداء المجاملة والتطبيل، وتحوّل إلى «علاقات عامة» يتخفى فيها الانتهازيون خلف أقنعة اللغة الرنانة. المسرح، أبو الفنون، بات يتيما يلهث وراء دعم مادي في قاعات مغلقة، كما تنتظر الزوايا هبات المريدين؛ فلا جمهور ولا وهج ولا نقاش، سوى هياكل خشبية تصفق للصدى. أمّا الطرب الذي كان مرآةً للذائقة الشعبية، فصار نطًّا وصراخًا “وهرجلة” وميوعة تُستدرج بها الأذواق إلى هاوية الاستهلاك السريع.
لقد أصبحنا في زمنٍ «من غير أدب»؛ زمنٍ يطرد القامات الحقيقية إلى هوامش النسيان ويحتفي بالسطحي والعابر والمهلهل. زمنٍ تلاشت فيه ضمائر المبدعين، وانكسرت فيه أقلام الطليعة، وصار فيه «الجمهور» مجرّد رقم في جدول حضور أو صفقـة تمويل. كأننا في جنازة ممتدة؛ نصلي فيها صلاة الغائب على القصة والشعر والنقد والمسرح والطرب، ونشيّع جثمان الثقافة إلى مقابر «اللاجدوى».


إنّ ما يحدث ليس قدرًا، بل هو حصيلة سياسات التبسيط والتسليع وتصحير الوعي. لقد جرى تفريغ الفنون من معناها لتصبح أدوات ترفيه لا أدوات تنوير، وجرى تفريغ النقد من مسؤوليته ليغدو إعلانًا تجاريًا، وتُرك المسرح في وحدته ليخاطب مقاعد خاوية. إنّنا نعيش رداءةً ممنهجة تُعيد تشكيل الذوق العام على مقاس السوق لا على مقاس الروح.
لكنّ التاريخ علّمنا أنّ الرداءة لا تخلد، وأنّ الأدب الحقّ كالعنقاء ينهض من الرماد مهما طال زمن السقوط. فسلامٌ على زمن الأدب الجميل، وعلى رواد القصة والشعر والمسرح الذين قضوا نحبهم، وسلام على كل مبدعٍ حقيقي يواصل إشعال الشمعة في هذا الليل الكثيف، علّنا نخرج يومًا من عزاء الثقافة إلى بعثها من جديد.

مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button