المتعلم في قلب العملية التربوية: التربية في عصر الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي

بقلم: عبداللطيف زكي
من خلال تجربة خاصة ومن خلال دراسات ذات العلاقة، ضرورة جعل المتعلم محور كل فعل تربوي، سواء داخل الصف أو في إطار التدريس التقليدي. ويُعاد تعريف دور المعلّم بصفته موجهاً ووسيطاً وشريكاً معرفياً يساعد المتعلم على استكشاف المعارف وبنائها وربطها بالحياة اليومية.
وينطلق المقال من إرث البيداغوجيا النشطة كما أسّسها ديوي وبيـاجيه وفيغوتسكي، ويمر عبر تجربة سيلفان بابرت ولغة LOGO كما تعلمتها ومارستها شخصيا، ليربطها بالتحولات المعاصرة التي أحدثتها وسائط الإعلام الرقمي، وأنظمة المعرفة، والذكاء الاصطناعي.
يخلص المقال إلى أنّ هذه الأدوات لا تُضعف المبادئ التربوية القائمة على مركزية المتعلم، بل تعمّقها وتوسعها، إذ تتيح تعلّماً شخصياً وإبداعياً ومسؤولاً، يعزز ملكة النقد ويهيئ الناشئة للتفاعل مع تحديات الواقع.
الكلمات المفتاحية: البيداغوجيا النشطة، مركزية المتعلم، الإعلام الرقمي، الذكاء الاصطناعي، LOGO، البنائية، التربية النقديةالمقدمةمنذ بدايات القرن العشرين، نادى مفكرو التربية بضرورة جعل المتعلم في صلب العملية التعليمية. دعا جون ديوي إلى “التعلّم عبر الخبرة”، وأكد جان بياجيه على البناء التدريجي للمعارف من خلال التفاعل مع البيئة، فيما أبرز ليف فيغوتسكي دور الوساطة الاجتماعية في التطور المعرفي.
في السياق العربي، نتذكر كيف تناول طه حسين قضية التعليم من زاوية الحرية وحق الجميع في المعرفة، وكيف اعتبر محمد عابد الجابري أنّ إصلاح العقل التواصلي شرط لإصلاح المدرسة، وكيف ربط عبد الله العروي التعليم بمشروع التحديث والنهضة.
اليوم، ومع صعود الوسائط الرقمية والذكاء الاصطناعي، يتأكد أكثر فأكثر أنّ هذه الأدوات لا تنفي مركزية المتعلم بل تمنحها أبعاداً جديدة: التخصيص، التشاركية، الانفتاح على المعرفة العالمية، وربط التعلم بمشكلات الحياة الواقعية.
المتعلم في قلب العملية التربوية: دعونا نتفق منذ البداية أن أفضل بيداغوجيا هي تلك التي تزرع في المتعلم:

• حب المعرفة والتعلّم المستمر،
• المسؤولية عن مساره التعليمي،
• القدرة النقدية،
• الإبداع وروح المبادرة،
• احترام الاختلاف والجرأة على المخاطرة.
في هذا الإطار، لن يبق دور المعلّم هو “إلقاء الدروس” بل مرافقة المتعلم وتيسير السبل أمامه لبناء معارفه الخاصة. فالمعلم، كما يقول حسن حنفي، لم يعد مالكاً للمعرفة بل شريكاً في إنتاجها.ينبغي، إذن، أن تكون التربية نوراً يفتح العقول، لا قيداً يكبلها.
فالتعلّم الحقيقي يوقظ الفضول، وينمّي التفكير النقدي، ويمنح الحرية في التساؤل، بدلاً من فرض الطاعة العمياء أو الترديد الآلي. إن رسالة التعليم أن تحرّر الإنسان وتفتح أمامه آفاق الإبداع والاكتشاف، لا أن تحبسه في دوائر الموروثات الضيقة والرؤى المغلقة.
الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي كامتداد للتربية المتمركزة حول المتعلم، التحولات الرقمية تعزز مبادئ البيداغوجيا النشطة:
• وسائل التواصل الاجتماعي: توفر فضاءات للتعاون وتبادل الآراء والانفتاح على الثقافات الأخرى.
• الأنظمة الخبيرة Expert systems وإدارة المعرفة Knowledge Management Systems : تمكّن المتعلمين من الوصول إلى معارف متخصصة كانت في السابق حكراً على الخبراء.
الذكاء الاصطناعي:
يتيح تعلّماً شخصياً من خلال تحليل أنماط المتعلم وتكييف المحتوى مع حاجاته وإيقاعه.
• التحليلات التعليمية:
توفّر بيانات تساعد على التقييم الذاتي وتحمّل المسؤولية.بهذا المعنى، التكنولوجيا لا تلغي دور المعلم بل توسّعه: من ناقل للمعرفة إلى موجّه يساعد على التمييز بين المعلومات، وتنمية التفكير النقدي، وتوظيف المعرفة في السياقات الواقعية، وبالتالي يبدو أن على سمات المدرس ومعارفه ومهاراته أن تتطور كذلك لتتلاءم مع هذه التطورات.
باپرت وLOGO وإرهاصات البنائية الرقمية: يمثل عمل سيلفان بابرت امتداداً للفكر البياجي، إذ طوّر لغة LOGO لتكون أداة لا لتعليم البرمجة فحسب بل لتشجيع الأطفال على التفكير الإبداعي وحل المشكلات. LOGO كان مختبراً للتجريب، حيث يختبر المتعلم قدرته على التعامل مع المفاهيم المجردة عبر الممارسة.اليوم، ورثة LOGO موجودون في منصات مثل Scratch وبيئات البرمجة البصرية الموجهة للأطفال.
هذه الأدوات لا تدرّب على الكود فقط، بل تعزز ما سماه بابرت “البنائية الإنشائية constructivism”؛ أي التعلّم عبر الإنجاز والإبداع. الحياة الواقعية وإيكولوجيا التعلّم الجديدلا يكتمل التعلم إذا ظل معزولاً عن الحياة الواقعية. والوسائط الرقمية تعطي فرصة غير مسبوقة لربط التعليم بالواقع، وذلك ب: المشاركة في مشاريع علمية جماعية، المساهمة في إنتاج محتوى معرفي مفتوح، تطوير تطبيقات لها أثر اجتماعي.
في هذا السياق، يصبح المعلم “أميناً على المعنى” و”منسقاً للتجارب”: يختار ويقيّم الموارد، ويحفّز المتعلم على الاستخدام الأخلاقي والمسؤول للتكنولوجيا.
الخاتمة:
مركزية المتعلم في العملية التربوية ليست شعاراً حديثاً بل امتدادٌ لفكر طويل يمتد من ديوي وبياجيه إلى فريـنيه وبابرت، ومن طه حسين إلى الجابري. غير أن ما يميز عصرنا هو أنّ الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي مكّنت من جعل هذه المركزية حقيقة ملموسة من خلال التخصيص والتفاعل والتعلم مدى الحياة.
إنّ أفضل بيداغوجيا هي تلك التي تغرس في المتعلم حب التعلم، وتحمله على التفكير النقدي والإبداع، وتمكّنه من ربط المعرفة بالحياة الواقعية ليصبح فاعلاً ومواطناً مسؤولاً في عالم معقد ومتغير.



