بين جناحين: سفر الشوق وعودة الذكريات

بقلم الاستاذ: مولاي الحسن بنسيدي علي
في كل مرة أفتح حقيبتي، أشعر أنّ قلبي هو الذي يُرتَّب لا ملابسي. أضع فيها لهفتي، حنيني، صورًا صغيرة لأحفادي علّها تُسكّن الشوق إلى حين. ثم أمتطي جناح الطائرة، وأترك وطني خلف الغيم، كمن يترك نبعًا ليسقي بستانًا في أرض بعيدة.
وحين تلامس قدماي مطار المدينة البعيدة، لا أهبط على أرضها فحسب، بل أهبط على صدورٍ اشتاقت إليّ، على أذرع أحفادٍ تفتح أمامي كأزهار الربيع، على عيونٍ دامعة كندى الصبح. ابنتي حناني هناك تحمل لي دفء الأمس في كؤوس اليوم، وأحفادي الاربعة يزرعون على وجهي ابتسامةً لا تعرف الرحيل. في تلك اللحظة يغدو السفر صلاةً، وتغدو الغربة موسمًا للفرح المؤقت.
أعيش معهم أيامي كأنني أتنفّس زمنًا معطَّرًا؛ الضحكات الصغيرة توقظني كل صباح كزقزقة عصافير، وأحاديثهم تسكب في قلبي ماء الحياة. أحدثهم عن المغرب كمن يسرد أسطورةً قديمة، عن زيتون الجبال وأمواج الأطلسي، وأغرس في قلوبهم بذرة وطن بعيد يشدّهم إليّ كما يشدّ القمرُ المدَّ إلى البحر.
وعن الجلسة المسائية على شاطئ بحيرة مارتشكا وعن فضاء الفجيجي باكليم وكرم صديقي الأزلي الشاعر الفلاح
لكن ساعة الرحيل لا تعرف الرحمة. تدقّ الأبواب في الصباح الباكر: “حان وقت العودة.” أرتدي ابتسامةً واسعة كي لا يراهم قلبي وهو ينكسر، أضمّهم واحدًا واحدًا كما يضمّ المزارع آخر سنابل الموسم، وأغادر.
على متن الطائرة، حين تبتعد المدينة تحت جناحيّها، أشعر أن نصف قلبي بقي هناك يلعب في حدائقهم، يتسلّق أسوار مدارسهم، يضحك مع ألعابهم. أقول لنفسي: هذه سنة الحياة، نحن أقدامنا في أرض، وقلوبنا في أرض أخرى، وما بينهما جسر من الشوق يعبره الحنين كل يوم.
وعندما أصل المغرب، أفتح حقيبتي في بيتي فلا أجد إلا الذكريات. الصور، الضحكات، دعوات ابنتي وأحفادي… أحتضنها كما يحتضن الغريب دفء النار في ليالي الشتاء، وأهمس في سري: “سأسافر من جديد، ما دام في الشوق نبض، وما دام في النبض حياة.”



