
انعقد المؤتمر الوطني العام 32 لجمعية هيئات المحامين بالمغرب بمدينة طنجة أيام 15 و16 و17 ماي 2025، تحت شعار دال ومكثف: “المحاماة فاعل محوري وشريك أساسي في منظومة العدالة”، في ظرفية دقيقة تمر منها منظومة العدالة بالمغرب، وفي ظل تحولات اجتماعية وتشريعية ومؤسساتية متسارعة، ألقت بظلالها على مهنة المحاماة وعلى علاقة هذه الأخيرة بباقي مكونات العدالة.لقد شكّل هذا المؤتمر لحظة نقاش جماعي واسع، شارك فيه محامون ومحاميات من مختلف الهيئات، عاينوا خلاله راهن المهنة وهمومها، وتفاعلوا مع التحديات التي تواجه العدالة ككل.

وقد توجت هذه الدينامية بإصدار بيان ختامي هام، حمل بين طياته خلاصات خمس لجان موضوعاتية، ومواقف واضحة في قضايا مهنية وحقوقية ووطنية.
كرّس البيان عودة قوية للمطلب التاريخي المرتبط باستقلالية مهنة المحاماة، وهو ما يعكس وعي الجسم المهني بخطورة التحديات التي تهدد هذا الاستقلال، سواء عبر التشريعات أو عبر الممارسات. وقد أكد المؤتمرون ضرورة مراجعة القوانين المؤطرة للمهنة، في اتجاه تكريس الاستقلال الفعلي، وضمان شروط الممارسة المهنية الكريمة، بما في ذلك الحماية الاجتماعية، والتكوين المستمر، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً للمحامين الشباب. كما جاء التأكيد مجددًا على وحدة المهنة تحت سقف جمعية هيئات المحامين بالمغرب، كردّ صريح على بعض النزعات التي تسعى إلى خلق كيانات موازية أو الدفع في اتجاه تعدد التمثيليات المهنية، بما يؤدي إلى إضعاف صوت المحاماة كقوة مجتمعية موحدة.
بموازاة مع تشخيص أعطاب المهنة، لم يغفل البيان التأكيد على موقع المحاماة كجزء من منظومة العدالة، ودورها المحوري في الدفاع عن الحقوق وضمان شروط المحاكمة العادلة.
ولذلك، جاءت الدعوة إلى شراكة حقيقية ومؤسساتية في كل ورش إصلاحي يمس العدالة، عوض الاكتفاء بمنطق الاستشارة الشكلية أو التهميش.
ولعل أبرز تعبير عن هذا الموقف، هو تجديد الدعوة إلى فصل فعلي لمهام رئاسة النيابة العامة عن وزارة العدل، بما يعيد ترتيب العلاقة بين مكونات العدالة على أسس التوازن والفصل الوظيفي، في انسجام مع التوجهات الدستورية وروح الاستقلال القضائي.
في بُعده الحقوقي، حافظ البيان الختامي على تقليد راسخ داخل جمعية هيئات المحامين بالمغرب، بوصفها فاعلًا حقوقيًا ملتزمًا، لا يكتفي بالدفاع داخل ردهات المحاكم، بل يوسع من مجالات فعله ليتقاطع مع قضايا المجتمع والحريات. فقد أكد البيان بوضوح أن الدفاع عن الحقوق والحريات ليس ترفًا ولا شعارًا مناسباتيًا، بل هو جوهر وجود المحاماة كمهنة ورسالة.
وعليه، جاءت المواقف صريحة ضد كل مظاهر التضييق على حرية التعبير، والاعتقال خارج الضمانات القانونية، والمتابعات المبنية على الرأي أو الانتماء.
كما لم يغب عن البيان البعد القومي والإنساني، من خلال التأكيد على الدعم الكامل لقضية الصحراء المغربية، والتشديد على الموقف المبدئي من القضية الفلسطينية، عبر التضامن اللامشروط مع نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، والدعوة إلى تفعيل المساءلة الدولية عن جرائم الحرب في غزة، دون أن يتضمن البيان موقفًا صريحًا بشأن مسألة التطبيع.
وإن كانت الوثيقة الختامية قد شكلت تتويجًا لمسار نضالي ومهني وطني، فإنها لا تخلو من بعض النواقص التي تستدعي التوقف والتحليل، ومنها غياب رؤية مفصلة حول تحديات الرقمنة والعدالة الرقمية، التي أصبحت واقعًا يفرض إعادة هيكلة العلاقة بين المحامي والقضاء، ويثير تساؤلات حول الأمن القانوني والحق في الدفاع.
كما يُلاحظ عدم الخوض في الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها آلاف المحامين الشباب، حيث تم الاكتفاء بعموميات دون اقتراح إجراءات عملية لمواجهة هشاشة الدخل وغياب الحماية الاجتماعية الكافية.
إلى جانب ذلك، برز الغموض في بعض جوانب إصلاح هيكلة الجمعية، بما فيها طرق اتخاذ القرار وتدبير الملفات المشتركة بين الهيئات، وهي نقطة تحتاج إلى نقاش داخلي معمق ومفتوح.إن البيان الختامي لمؤتمر طنجة ليس مجرد وثيقة، بل هو مرآة لنبض الجسم المهني ومرجع لرؤية جماعية تتطلع إلى مستقبل مختلف، تتعزز فيه كرامة المحامي، وتسترجع فيه المهنة دورها الطليعي في حماية الحقوق، وصيانة التوازنات داخل منظومة العدالة.
لكن تحقيق هذه الأهداف يبقى مرهونًا بمدى قدرة الجمعية وهيئاتها على تحويل التوصيات إلى أوراش فعلية، ميدانية وترافعية، قائمة على الالتزام لا التفاوض، وعلى الدفاع لا التكيّف، وعلى الكرامة لا المجاملة.
ففي زمن التحولات المتسارعة، لا يكفي أن نتمسك بثوابت الدفاع، بل علينا أن نعيد ابتكار أدواته، وأن نكون في مستوى اللحظة التاريخية التي تضع المحاماة في صلب معادلة العدالة، لا على هامشها.
* محام بهيئة الرباط – عضو المكتب التنفيذي لرابطة المحاميات والمحامين الحركيين.



