الناقد المصطفى النهيري: خيبتي الكبرى أن الثقافة ما زالت تعامل كترف لا كضرورة

حاورته- ليلى حبش
لا يمكن أن نفصل المصطفى النهيري الناقد؛ عن المصطفى النهيري الإنسان؛ عن عمر يناهز 84 سنة. فخلف أجوبته الحادة تختبئ معاناة يومية خانقة. فهو يعيش ضغطاً دائماً بصفته مكترياً لإحدى الشقق، حيث لا يتوقف صاحب البيت وعائلته عن التضييق عليه بشتى الوسائل لدفعه إلى إخلائها، رغم أنه يؤدي واجب الكراء بانتظام ودون تأخير.
أمام هذا الوضع، اختار النهيري أن يجعل من المقاهي فضاءه الحقيقي للعيش الثقافي، يقضي فيها ساعات النهار بين القراءة والكتابة، منكفئاً على كتبه وأوراقه، بعيداً عن صخب العالم وضغوط الحياة. هناك، وسط صمت داخلي وضجيج خارجي، يكتب نصوصه النقدية بنَفَس منكبٍّ على الحفر في جوهر الأدب. وعندما يسدل الليل ستاره، يعود إلى بيته المثقل بالضغط، ليلتحف النوم وحيداً كمن يستعد لمعركة جديدة مع النهار.
هذه المعاناة المادية والمعنوية لم تكسر قلمه، بل زادته إصراراً على أن النقد فعل وجودي، وأن المثقف الحقيقي يعيش ما يكتبه قبل أن يكتبه. لذلك، تأتي كلماته مشبعة بصدق التجربة وحرارة المواجهة، وكأن كل نص نقدي يكتبه هو أيضاً شهادة حياة.
إن المصطفى النهيري ناقد لا يطل من برج عاجي، بل من مقهى متواضع، ومن بيت تضيق جدرانه بضغط الإخلاء، ومن حياة لم تعرف امتيازات. وربما هنا يكمن سر قوته: أنه يكتب من قلب الجرح، فيحوّل الألم إلى بصيرة، والعزلة إلى أفق.
تعتبر الكتابة عن شخصية بارزة مثل الكاتب والناقد المصطفى النهيري فرصة للغوص في عمق المشهد الثقافي المغربي، إذ يُمثل النهيري، بفكره النقدي الثاقب، صوتًا مهمًا يتناول قضايا الثقافة وهمومها بجرأة ووعي.

لا يمكن الحديث عن المصطفى النهيري بمعزل عن مسيرته الغنية التي جمعت بين الإبداع والكتابة النقدية. إنه ليس مجرد كاتب يروي القصص، بل هو أيضًا ناقد يُفكك النصوص ويُعيد تركيبها، مستخلصًا منها جوهرها الفكري والإنساني، وتُعد أعماله بمثابة مرآة تعكس التحولات العميقة التي شهدها المجتمع المغربي، وتُقدم قراءة نقدية حقيقية للموروث الثقافي.
يُركز النهيري في كتاباته على معالجة هموم الثقافة المغربية المعاصرة، مُسلطًا الضوء على التحديات التي تواجهها. متسائلا عن علاقة المثقف بالسلطة، ودور الفن والأدب في بناء الوعي الجمعي، وموقع الهوية المغربية في ظل العولمة المتسارعة.
لا يُقدم إجابات جاهزة، بل يطرح أسئلة عميقة تُحفز القارئ على التفكير والتأمل. إنه يرى أن الثقافة ليست مجرد نتاج فني أو أدبي، بل هي نضال مستمر ضد الجمود والتكرار.
يُشكل النقد المعاصر أحد أهم المحاور التي يشتغل عليها المصطفى النهيري. يدعو إلى نقد يتجاوز الأطر التقليدية، ويُلامس النصوص بوعي جديد يأخذ بعين الاعتبار السياقات الاجتماعية والتاريخية. يُقدم النهيري أدوات نقدية مبتكرة تُساعد على فهم أعمق للأعمال الأدبية والفنية، ويُحفز على إعادة قراءة التراث برؤية معاصرة، مُتجنبًا الإسقاطات المباشرة.
باختصار، يُمثل المصطفى النهيري صوتًا نقديًا مهمًا يُثري المشهد الثقافي المغربي، ويُقدم قراءة جريئة لواقعه، مُستشرفًا آفاقًا جديدة للكتابة والفكر. إنه كاتب وناقد لا يمكن تجاهل أثره العميق في وعي الأجيال.
وفي حديث للكاتب والناقد المصطفى النهيري الذي فتح قلبه وعقله، ل”الحدث الافريقي” متحدثاً عن هموم الثقافة المغربية وأسئلة النقد المعاصر، بلغة تجمع بين الحدة والصدق، دون مجاملة أو تزويق.
إذ يرى الناقد النهيري في حديث قصير معه، “أن تهمة النقاد بالعيش على هوامش المبدعين، والناقد “طفيلياً” على النص، تهمة جاهزة يرددها من يخاف النقد أو يجهل وظيفته. الناقد ليس طفيلياً، يقول الناقد النهيري، بل هو شريك في إضاءة النص. صحيح أن الإبداع يولد من لحظة ذاتية، لكن النقد يمنحه حياة ثانية، حياة واعية. من يرفض النقد، في الغالب، يخاف من مواجهة ضعفه الفني”.
ويقول، المصطفى النهيري “بصراحة، نسبة كبيرة مما يُنشر اليوم لا يستحق أن يُقرأ. هناك غزو للكتابة السهلة والانطباعية. لكن بالمقابل، هناك أصوات حقيقية تشتغل بجدية، تحتاج فقط إلى المواكبة والإنصاف. المعضلة أن الرداءة تجد من يروّج لها أكثر من الجودة”.
ويضيف قائلا:” أنا ضد النقد الذي يتحول إلى “معادلات رياضية” بلا روح. النص الأدبي ليس مختبراً للغة الجامدة، بل جسد حيّ. أستخدم المناهج الحديثة، نعم، لكنني لا أتعامل معها كقوانين مقدسة. أؤمن أن النقد حوار قبل أن يكون نظرية”.
وفي جوابه عن أن النقد فقد سلطته في زمن السوشيال ميديا، حيث صار القارئ البسيط يقيّم الكتاب بكلمة: “عجبني” أو “ما عجبنيش”. هل انتهى زمن النقاد؟، يشدد النهيري،قائلا:” أبداً، انتهى زمن “الوصاية النقدية” ربما، لكن لم ينته دور الناقد. وسائل التواصل وفرت ديمقراطية وهمية، لكنها لا تصنع وعياً نقدياً. الناقد الحقيقي يملك أدوات التحليل والمعرفة، وهذا ما لا يمكن أن تعوضه “لايكات” عابرة.
ويقول الناقد النهيري عن أكبر خيبة أمل عاشها وهو يتابع المشهد الثقافي المغربي، “خيبتي الكبرى أن الثقافة ما زالت تعامل كترف، لا كضرورة. نُنفق الملايين على المهرجانات الصاخبة بينما تُهمل مشاريع الكتابة الجادة. والأسوأ أن بعض “النجوم الورقية” يُصنعون بالتطبيل، بينما أقلام حقيقية تُدفن في الصمت. ويشدد على أن ” النقد هو أن تُحب الأدب بقدر ما تجرؤ على فضحه”.



