
بقلم: وليد كبير
من يطالع الوثيقة الصادرة عن كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة حسيبة بن بوعلي – الشلف، والمؤرخة في 8 ماي 2025، يظن للوهلة الأولى أنها بيان صادر عن جهاز أمني، لا عن مؤسسة أكاديمية يُفترض أن تحتفي بحرية الفكر والبحث والنقاش.

إنها وثيقة رعب وليست مراسلة جامعية!
لكنها في الحقيقة تعكس مرحلة متقدمة من تكميم الأفواه، واستبدال فضاء الجامعة بحظيرة خاضعة للأوامر البوليسية. قبل الغوص في مضمون الوثيقة، لا يمكن تجاهل الفضيحة الشكلية التي تتصدرها: عنوان هجين في أعلى الصفحة، خليط عشوائي بين الإنجليزية والفرنسية، يشهد على عمق الاضطراب الهوياتي والإداري الذي ينخر مؤسسات الدولة.
فهل نحن أمام وزارة تعليم عالٍ في دولة مستقلة ذات سيادة لغوية؟ أم أمام إدارة ما زالت تترنح بين لغة المستعمر وتيه الحداثة المغشوشة؟ لكن الأخطر من الشكل، هو السياق.
فهذه “التعليمة” صدرت وسط حملة شرسة يقودها النظام ضد كل من يتجرأ على الخوض في التاريخ خارج الرواية الرسمية المفبركة.تم الزج بالكاتب بوعلام صنصال في السجن، لمجرد أنه أشار إلى حقيقة تاريخية يعلمها الجميع: أن فرنسا ضمت أراضي مغربية إلى الجزائر خلال استعمارها للمنطقة.
لم يتحمل النظام أن يُقال ما يعرفه المؤرخون، فقرر أن يعاقب الكلمة بالسجن.ثم جاء دور المؤرخ محمد الأمين بلغيث، الذي جرى استخدامه كأداة في لعبة مخابراتية فاشلة، هدفها توجيه رسالة مبتذلة إلى الإمارات التي عززت شراكتها مع دول الجوار. فحُشر اسم بلغيث في سيناريو رديء، أُهين فيه قبل أن يُلقى به في السجن.
بعدها، لم تمر أيام حتى صدرت مذكرتا توقيف دوليتان ضد الصحفي والكاتب كمال داوود، فقط لأنه تجرأ على نبش ذاكرة العشرية السوداء، وكشف ما لا يريد النظام سماعه حول دور الدولة العميقة في هندسة الفوضى التي أغرقت الجزائر في حمام الدم خلال التسعينيات.
وفي خضم هذا الجو الخانق، تصدر وثيقة “جامعة الشلف”، لتأمر أساتذة قسم التاريخ بعدم التصريح لأي وسيلة إعلام أجنبية دون ترخيص مسبق. وكأن الأستاذ الجامعي موظف في ثكنة عسكرية، لا حامل رسالة معرفية.

والأخطر: أن من يخرق هذا الصمت “يُعرض نفسه لإجراءات تأديبية”، وكأننا في مؤسسة العقاب والرعب، لا في مؤسسة أكاديمية.
أي جامعة هذه التي تخاف من فكر أستاذها؟ وأي دولة هذه التي تعتقل الروائي، والمؤرخ، والصحفي لأنهم قالوا الحقيقة؟ هل نعيش في كنف دولة… أم في ظل عصابة تخشى من ظلها؟الوثيقة التي وقعها “عميد الكلية” ليست مجرد مراسلة، بل هي مرآة لذهنية بوليسية تُدير الجامعة بنفس منطق غرفة الأمن والاستعلام، حيث يُخنق الصوت، ويُراقب الفكر، ويُطارد الأستاذ.
هكذا يُكمل النظام حلقة الرعب: الصحفي يُطارد، الكاتب يُسجن، المؤرخ يُسكت، والأستاذ يُهدد… لأن الحقيقة، في جزائر اليوم، جريمة لا تُغتفر.



