محمد بنعليلو..محاربة الفساد “معركة وجود”

قال محمد بنعليلو رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة وهو يقدم استراتيجية الهيئة، للفترة 2025-2030 صباح اليوم الثلاثاء 09دجنبر بالرباط، “أن محاربة الفساد “معركة وجود”، لأنه حين يتسلل إلى دواليب الدولة، ينهك الاقتصاد، ويشوه العدالة، ويُسكت صوت الكفاءة، ويؤثر في مستقبل الشباب، ويزرع الشك في النفوس، ويحول المؤسسات إلى فضاء للعجز والترد”.
وأضاف، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة وهو يقدم استراتيجية الهيئة، “لقد أصبح واضحا اليوم، وبما لا يدع أي مجال للشك أو التأويل، أن مخاطر الفساد في صيغته الحديثة لم تعد في مجرد انحراف فردي أو ممارسة شاذة هنا أو هناك، بل في مخافة تحوله إلى خلل بنيوي يتقاطع مع السياسات العمومية، ويتسلل إلى المنظومة الإدارية والاقتصادية، ويهدد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع.
وشدد على أن هذه الاستراتيجية لا تنطلق من” صفحات وثيقة تقنية”، بل من وعي عميق باللحظة الوطنية التي نعيشها معا، ومن إدراك جماعي بأن المغرب يدخل مرحلة جديدة من مسار بناء دولة حديثة، عادلة، نزيهة، وفاعلة، دولة تجعل من النزاهة رافعة مركزية لإعادة تثبيت الثقة، ولإعطاء الإصلاحات الكبرى معناها الحقيقي، ولتأمين سيادة القانون في سلوك المؤسسات وفي ممارسة السلطة وفي تدبير الشأن العام.
وقال بنعليلو، “حرصنا على أن نكتب فيها فصلا جديدا من فصول مؤسسة دستورية، واضحة في خياراتها، وقادرة على مواجهة الفساد في صيغته العلنية والخفية، الظاهرة والمستترة، الفردية والمنظمة. فالفساد، في كل تجلياته، ليس موضوعا قطاعيا، ولا ملفا تقنيا، ولا شأنا إداريا محضا.”
وأكد أن مخاطر الفساد في صيغته الحديثة لم تعد في مجرد انحراف فردي أو ممارسة شاذة هنا أو هناك، بل في مخافة تحوله إلى خلل بنيوي يتقاطع مع السياسات العمومية، ويتسلل إلى المنظومة الإدارية والاقتصادية، ويهدد الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها المجتمع.
مردفا أن “الفساد، كما نعلم جميعا، ليس فقط خرقا للقانون، بل هو أيضا فشل في الحكامة، واعتلال في العلاقة بين المواطن ومؤسساته، وانحراف عن المصلحة العامة، وتهديد مباشر لشرعية الفعل العمومي”.
وقال، “إن مواجهة الفساد لا يمكن أن تظل مرهونة بمنطق رد الفعل، أو بالتدخل بعد وقوع الضرر، أو بتحريك المساطر بشكل ظرفي، ولا حتى بحملات تجميع المبادرات المتناثرة دون رؤية موحدة. لقد أصبح المطلوب اليوم تحقيق تحول مؤسسي عميق، قوامه الانتقال من منطق “التصدي والمعالجة” إلى منطق “الوقاية الذكية والاستباقية“، ومن الاكتفاء بوصف الظواهر، إلى بناء أنظمة قادرة على فهمها وقياسها والتنبؤ بها، ومن معالجة الحالات الفردية على تعددها، إلى هندسة النزاهة كنظام عام شامل يستوعب القطاع العام والقطاع الخاص معا. بمنطق الوقاية الذكية، والاستباق، والإنذار المبكر، والذكاء المؤسساتي، والتوجيه المعياري، والتعبئة المجتمعية، وبناء كتلة وطنية واسعة تتقاطع فيها مسؤوليات الدولة والمجتمع كما أراد ذلك جلالة الملك، حين قال،”إن الفساد ليس قدرا محتوما، ولم يكن يوما من طبع المغاربة. غير أنه تم تمييع استعمال مفهوم الفساد، حتى أصبح وكأنه شيء عاد في المجتمع. والواقع أنه لا يوجد أي أحد معصوم منه، (..). وهنا يجب التأكيد أن محاربة الفساد لا ينبغي أن تكون موضوع مزايدات. ولا أحد يستطيع ذلك بمفرده، سواء كان شخصا، أو حزبا، أو منظمة جمعوية. (…). فمحاربة الفساد هي قضية الدولة والمجتمع: الدولة بمؤسساتها، من خلال تفعيل الآليات القانونية لمحاربة هذه الظاهرة الخطيرة، وتجريم كل مظاهرها، والضرب بقوة على أيدي المفسدين. والمجتمع بكل مكوناته، من خلال رفضها، وفضح ممارسيها، والتربية على الابتعاد عنها، (…)”.
من هذا الوعي بالتحول، ومن هذا الشعور المشترك بالمسؤولية، يقول بنعليلو، تنطلق الاستراتيجية الخماسية للهيئة. التي تستند في مرجعياتها على:
1- سياق دستوري واضح؛ يجعل أسس الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة من صميم مبادئ النظام الدستوري للمملكة، ويجعل من حماية المال العام وترسيخ النزاهة، مرتكزات أساسية للدولة الحديثة.
2- على نقلة قانونية حولت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها من مؤسسة استشارية محدودة الصلاحيات إلى قطب وطني مرجعي في قيادة النزاهة وتوجيه السياسات العمومية ذات الصلة بمكافحة الفساد.
استراتيجية جاءت لتبلور رؤية، تُعيد تموقع الهيئة داخل المنظومة الوطنية للنزاهة، وتمنحها القدرة على التأثير والقيادة والتحليل والتعبئة والمكافحة، في انسجام تام مع التزامات المغرب الدولية، ومع الممارسات الفضلى للهيئات النظيرة عبر العالم.
وأضاف رئيس الهيئة، “الأكيد أننا ندرك جميعا حضرات السيدات والسادة، بمنطق المرجعيات التي تستند إليها هذه الاستراتيجية دستورية كانت أو قانونية أو دولية بمضامينها المعيارية، ندرك أن منطق التدخل بعد وقوع الضرر، ومنطق تحريك المساطر بشكل مناسباتي، لم يكن يوما كافيا ولا مقنعا، ولا قادرا على حماية الدولة والمجتمع. خاصة وأن العالم يتحرك بسرعة، وأساليب الفساد تتطور بسرعة أكبر. فالفساد اليوم، في مفهومه الدولي، لم يعد مجرد رشوة صغيرة، أو تضارب مصالح محدود، أو تجاوز إداري بسيط، لقد أصبح سلوكا منظما، له امتداداته التقنية والمالية، وله قدرة على التكيف والتأثير، ووسائل تيسر تهريب الأموال، وتقنيات لإخفائها، وله أحيانا كثيرة ارتباطات خارجية. وبالتالي لم يعد ممكنا أن نواجه ظاهرة معقدة بأساليب تقليدية”.
هذا التحول متعدد الأبعاد للفساد هو موجه هذه الاستراتيجية. وهو الذي يجعل منها أكثر من مجرد خطة عمل، بل هندسة جديدة لطريقة اشتغال الهيئة ولعلاقتها بباقي المؤسسات. لعلاقتها بكم أنتم حضرات السيدات والسادة كل من موقعه ومجال تدخله.
فالاستراتيجية الخماسية للهيئة، بهذا المعنى، ليست برنامجا إداريا يُنفذ بين المكاتب، بل هي مشروع مؤسسة برؤية أفقية. رؤية تهدف إلى بناء منظومة متكاملة من أجل النهوض بالنزاهة العمومية، وإلى توحيد الجهود الوطنية، وجعل مكافحة الفساد مسارا مؤسسيا قائما على آليات واضحة، وعلى مشاريع مهيكلة، وجداول زمنية دقيقة، ومؤشرات قابلة للقياس، وتقارير تقييم دورية تُدرج خلاصاتها في التقرير السنوي الذي يُرفع إلى جلالة الملك.
إنها استراتيجية تعتبر رمزية اللحظة، من التوجيه الملكي إلى البناء المؤسساتي، فهي ترجمة عملية مباشرة للتوجيهات الملكية السامية التي أكدت، في أكثر من مناسبة، على أن محاربة الفساد ليست خيارا ظرفيا، ولا شعارا عابرا، بل هي التزام دائم قائم على أن أي انحراف عن قواعد النزاهة، وأي استغلال للنفوذ يعد إخلالا خطيرا بحقوق المجتمع، واعتداء على الثروة الوطنية، وجريمة أخلاقية وسياسية في حق الوطن.
وهذا التوجيه الملكي حضرات السيدات والسادة ليس خطابا سياسيا، بل تفويض مؤسساتي يُسائلنا جميعا: حكومة، برلمان، قضاء وهيئات حكامة، جماعات ترابية، قطاع الخاص، إعلام، ومجتمع مدني.
إن الاستراتيجية الخماسية للهيئة التي نعرضها عليكم اليوم، تقوم من ناحية الهيكلة على ستة (6) محاور استراتيجية كبرى، تشكل مجتمعة (24) محورا فرعيا، وتضم في مجملها (99) مشروعا تشكل مجتمعة حقيبة مشاريعها المتكاملة، لكل مشروع منها غايات واضحة، ومؤشرات أداء، ومؤشرات أثر، ونسب تنفيذ تقاس سنويا، وآليات ضبط تسمح بمراجعة التنفيذ في الوقت الحقيقي. وهي بهذا الشكل، تمثل أيضا تعبيرا عن تعاقد واضح بين الهيئة والدولة والمجتمع حول عدد من النتائج، لا مجرد إعلان نوايا.
لقد جاءت هذه الاستراتيجية لتجيب عن عدد من الإشكالات والتحديات البنيوية التي تواجه المنظومة الوطنية للنزاهة، والتي من بينها:
- تباين المقاربات بين الفاعلين العموميين والخواص؛
- محدودية ثقافة القياس والتقييم؛
- هشاشة الثقة المجتمعية في فعالية الآليات القائمة؛
- اتساع الطلب الاجتماعي على الشفافية والإنصاف؛
- تشتت الجهود وإن تعددت المبادرات؛
فصيغت محاورها بشكل منهجي يحاول الإجابة عن هذه الإشكاليات من زاوية مؤسساتية تؤطرها ضوابط الاختصاص وتوجهها موجهات التكاملية.
وهكذا تأسست الاستراتيجية الخماسية للهيئة على إدراك أن القيادة الفعلية لمنظومة النزاهة تبدأ من القدرة على فهم الواقع وتقييمه وتوجيهه؛ لذلك أتى المحور الأول المتعلق ب “تعزيز القيادة المعيارية والاستشرافية للهيئة في توجيه السياسة العمومية في مجال النزاهة وتخليق الحياة العامة والحياة السياسية” ليجعل من الهيئة الموجه الاستراتيجي لمنظومة الوقاية من الفساد. فإضافة إلى تقييم الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الفساد 2015-2025، كهدف محدد خلال هذه السنة، تقدم الهيئة تصورا لخارطة طريق جديدة تقوم على إعداد منظومة وطنية للقياس والمؤشرات، ووضع باروميتر وطني للنزاهة، وصياغة توجيهات استراتيجية تصلح كمرجع موحد للقطاعات الحكومية والقطاع الخاص وهيئات المجتمع المدني لصياغة استراتيجية وطنية من جيل جديد لمكافحة الفساد.
أما المحور الثاني، المتعلق بـ”تمكين الفاعلين العموميين والقطاع الخاص والمجتمع المدني من آليات الوقاية واليقظة المبكرة ضد مخاطر الفساد“ فقد تم ربطه بالوقاية واليقظة، ليترجم قناعة أساسية لدى الهيئة مفادها أن منع الفساد قبل وقوعه هو أكثر فعالية وأقل كلفة وأعمق أثرا من معالجته بعد أن يتحول إلى ملف قضائي أو قضية رأي عام. وهنا حرصت الهيئة على أن تشتغل على إنشاء منظومة وطنية للتبليغ الآمن، وعلى دعم الإدارات والمؤسسات والمقاولات في بناء أنظمة الامتثال الداخلية الخاصة بها، وتدبير تضارب المصالح، وإحداث قدرات يقظة مبكرة في المجالات ذات المخاطر المرتفعة مثل الصفقات العمومية والاستثمار والخدمات الحيوية للمواطن والمقاولة.
وبالنسبة للمحور الثالث، المتعلق بـ “إشاعة ثقافة النزاهة باعتبارها سلوكا مواطنا ومنظومة قيم عمومية، عبر التربية، المواكبة، والتأطير الأخلاقي للمجال العام، والانخراط المجتمعي والإعلامي“، فإن الهيئة تدرك أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع، وأن النزاهة ليست مجرد سياسة عمومية، بل هي سلوك مواطن، ومنظومة قيم، وتمثل أخلاقي. لذلك ركزت في برامجها على إدماج قيم النزاهة في المدرسة والجامعة والتكوين المهني، وعلى تصميم برامج للشباب، وعلى دعم الصحافة الاستقصائية وصحافة البيانات، وعلى تعزيز إشراك المجتمع المدني باعتباره قوة رصد وتنبيه واقتراح. فالمجتمع المدني في هذا المحور ليس شريكا تكميليا، بل مُكونا أساسيا من مكونات جبهة النزاهة الوطنية، وصوته جزء من الشرعية العمومية.
أما المحور الرابع، المخصص لـ” تعميق الانخراط الدولي وتعزيز الشراكات الوطنية متعددة الأطراف قصد ترسيخ التكامل المؤسساتي وتعبئة جبهة وطنية واسعة ضد الفساد”، فإن الهيئة، تهدف من خلاله إلى جعل المغرب فاعلا دوليا مؤثرا في قضايا النزاهة، من خلال تعزيز حضورها في المحافل الأممية والإقليمية، والتنسيق مع الهيئات النظيرة، وتوطين التجارب الناجحة، وهذه الدبلوماسية المؤسسية ليست ترفا، بل هي جزء من حماية المصالح الوطنية في فضاء متعدد الأطراف ومتقلب المصالح فالبعد الدولي في مرجعيات الاستراتيجية، ليس عنصرا كماليا بل هو عنصر من عناصر المصداقية الخارجية للمؤسسات، ومعزز لقدرة الهيئة على حماية المصالح الوطنية في محافل التعاون الدولي ذات الصلة بمجالات تدخلها.
أما على المستوى الداخلي فيصبو هذا المحور إلى إحداث جسور واضحة للتعاون بين الدولة بمؤسساتها والقطاع الخاص والمجتمع بجميع مكوناته.
بينما يمثل المحور الخامس، المتعلق بـ”التحول الرقمي والابتكار والذكاء المؤسسي كرافعة للشفافية والجاهزية التحليلية والنجاعة التشغيلية للهيئة“. (يمثل)، أحد أعمدة الإصلاح الحديثة. وبالتالي فإن التحول الرقمي في هذه الاستراتيجية ليس إضافة تقنية، بل هو جوهر عمل الهيئة، إذ بدون حكامة بيانات، وبدون ذكاء اصطناعي، وبدون أنظمة إنذار مبكرة، وبدون رقمنة المساطر، لا يمكن بناء مؤسسة قادرة على التحليل والاستباق والتنبؤ واتخاذ القرار في الوقت المناسب.
وبعد ذلك يأتي المحور السادس، المتعلق بـ”ترسيخ الجاهزية المؤسسية والتموقع الاستراتيجي للهيئة داخل المنظومة الوطنية للنزاهة، عبر الحكامة الداخلية، والمساءلة، والقرب الترابي، والشرعية الاعتبارية“. وهو محور يجعل من الجاهزية المؤسسية شرطا مركزيا لكل إصلاح. فلا يمكن للهيئة أن تقود النزاهة إذا لم تكن في ذاتها نموذجا للنزاهة. لذلك خصصت حيزا مهما في استراتيجيتها لاستكمال الهيكلة التنظيمية، واعتماد معايير الجودة، وتدبير المخاطر، وترسيخ الشفافية الداخلية، وتقوية قدرات البحث والتحري، وتوسيع حضور الهيئة ترابيا عبر تمثيليات جهوية، والكل بمقار مؤسساتية تعكس مكانتها الدستورية.
هذه المحاور الستة، بمشاريعها (99) ومؤشراتها الدقيقة ونسب تنفيذها السنوية، ليست مجرد إطار نظري، بل هي أداة عملية لبناء تحالف وطني واسع ضد الفساد. فجبهة النزاهة لن تكتمل بدون انخراط حكومي معلن سياسيا ومجسد عمليا، ولا بدون سلطة قضائية مستقلة وفعالة، ولا بدون هيئات رقابة نشطة، ولا بدون قطاع خاص يتحمل جزءا من المسؤولية في تنظيف الممارسات الاقتصادية، ولا بدون مجتمع مدني جاد ويقظ وإعلام مسؤول، ولا بدون مواطن مبادر إلى التبليغ، ومطالب بالشفافية، ويعتبر النزاهة حقا أساسيا من حقوقه وواجبا من واجباته كمواطن.



