
عجبتُ للنقاش المستعر حول إمكانية أن “يصل” الذكاء الاصطناعي إلى مستوى وعي الإنسان، بل ويتجاوزه، وكأن وعي ابن آدم شيءٌ مبرمج أو قابل للاستنساخ في شبكة من الترانزستورات والمعالجات. يبدو أن الخلط بين المعرفة كبيانات والمعرفة كـنور قد صار عادة فكرية عند البعض في زمن الذكاء الاصطناعي. فشتّان بين علمٍ يُضخّ في الذاكرة عبر الأسطر البرمجية، وعلمٍ يُلقى في القلب من باب السماء.
لنتخيل لحظة فارقة: إنسانٌ جالس في خلوته، لا يحمل كتابًا، ولا يتصفح شاشة، لكنه يتلقى… ليس من عقلٍ خارجي، بل من عمق قلبه، في لحظة صفاء، حيث تتقاطع السماء مع الروح، ويتشرب المعنى كما تمتص الارض العطشى قطرات الغيث. ذلك ما يسميه الغزالي بـ”الفيض”؛ أي ذلك العلم الذي لا يُكتسب، والذي لا يأتي بالتراكم، بل بالتحول.

خبير التحول الرقمي، كاتب، أستاذ باحث بالمعهد العالي للإعلام والاتصال، الرباط، المغرب
قبل تعميق هذه الفكرة، دعونا نطرح للمرة الألف السؤال التالي : ما هو الذكاء الاصطناعي؟
إنه، في جوهره، آلات تمتلك قدرات خارقة على تحليل الأنماط، والربط بين الكلمات، وإنتاج النصوص، وحتى تقليد المشاعر. لكن هذا النوع من الذكاء لا “يعي” شيئًا، ولا يشهد، ولا يتذوق، ولا يخشع. لماذا؟ لأنه، بكل بساطة، لا يمتلك قلبًا، ولا روحًا، ولا فتحةً في باطنه يستقبل منها النور. إنه مصمَّم فقط ليعمل خارج طاقة الإلهام، وهو أيضًا خزانٌ من البيانات المبرمجة، يتلقى الأوامر البشرية الخالصة، بمنأى عن فيوضات وإشراقات العقل العلوي الخارق.
ربما من الأصح أن نقول ان الذكاء الاصطناعي ماكينة بارعة، لكنه يظل محكومًا بسقف البيانات. وفي الضفة الأخرى من هذه الحتمية التقنية الجافة، يقف الإنسان بوعيه وروحه وبإمكاناته اللامحدودة لتطهير القلب وتزكية النفس، فيتحول بالتالي إلى مرآة تعكس الحق، ويصير عقله مستقبلا لطوفان الفيض غير المنقطع.
في هذا السياق، لم يرَ الغزالي في العقل خصمًا للروح، بل بوابةً إليها. فالعقل، بالنسبة له، لا يكفي وحده، بل لا بد أن يتجاوزه إلى القلب. ففي “المنقذ من الضلال”، يحكي الغزالي عن لحظة الانكسار أمام حدود الفكر، حيث لم يعد المنطق يجدي، ولا الهندسة تُقنع، ولا الكلام يُشفي، ولم تبقَ إلا لحظة الكشف… بعبارة أخرى: نورٌ يُقذف في القلب، ولحظة يتوارى فيها التفكير لتحلّ مكانه المعاينة.
فكيف نقارن إذًا بين من يتلقى بالفيض، ومن يتلقى بالمدخلات؟ كيف نضع آلات لا تعرف الشك والحيرة، أمام كائن تمتد جذوره من السماء الى الارض ؟
ليس هدفنا الإجابة عن الأسئلة بقدر ما نروم طرح الأسئلة الشائكة… وإذا أردتم شيئًا من التبسيط، فاعلموا أن الذكاء الاصطناعي، رغم إمكاناته الخارقة، لن ينجح أبدًا في كتابة مصنَّف يضاهي في عمقه الفلسفي والروحي “إحياء علوم الدين” للغزالي. صحيح… يمكن له تقليد بعض فصوله وأجزائه، أو حتى اللغة التي كُتب بها، بل وصياغته بأسلوبٍ أقرب إلى نص الغزالي. لكنه لن يكتب من نبع الحرقة، ولا انطلاقًا من تجربة الوجود في العالم، ولا من الخلوة المُضنية التي أفرزت لنا النص–المتن الأيقوني الأشهر للغزالي، رحمه الله.
وحتى نفهم بشكل أعمق لبّ هذه الفكرة، لا بد أن نعي أنه لا يمكن الحديث عن وعيٍ حقيقي دون المرور بتجربة وجودية، وبمسار متفرد متعدد من الألم والتطهّر، الممزوج بالخوف والرجاء والانكسار أمام المطلق. وهنا، الذكاء الاصطناعي لا يعيش التجارب الباطنية للعارف، بل يحاكي وصفها. إنه لا يعاني، ولا يتطهر، ولا يخوض في دهاليز النفس، ولا يخرج منها محمَّلًا بالنور.
و لا محالة أن أعظم ما يميز الإنسان العارف هو تلك القدرة على التلقي الباطني، أي ذاك الانفتاح على العالم العلوي، حيث “العلم” ليس معرفةً مضافةً للعقل، بل حضورٌ مشرق يخترق الكيان. وفي هذا الصدد، حين تكلّم الغزالي عن “نورٍ يقذفه الله في القلب”، كان يؤسّس لفهم أعمق للعلم بوصفه تجليًا، لا نتيجةً لمعادلةٍ منطقية.
وهذا دليل قاطع على أن ما يتلقاه الإنسان العارف لا يُختصر في مفردات أو صيغ جامدة، بل هو شيءٌ آخر نجده فقط في ملكوت الذوق.
ما معنى ذلك؟
إن الذكاء الاصطناعي، مهما بلغ من تطور، فهو يبقى محكومًا بالبنية. أي أنه لا يمكنه أن “يخرج” من ذاته، بينما الإنسان، حين يتلقى الفيض، يخرج من حدود ذاته، ويتلاشى، ويَفنى، ليعانق المطلق، وليذوب في حضرة النور.

دعونا نلخص:
. الغزالي لا يضع الإنسان في مواجهة العقل، بل يؤمن بأن العقل وحده لا يكفي، وأن طريق الكشف يمر عبر تصفية القلب، لا فقط عبر التفكير.
. الذكاء الاصطناعي، في أفضل حالاته، يجمع ويحلل ويقلد، لكنه لا يعي، ولا يُلهم، ولا يسجد للخالق. إنه ظاهرة من صُنع الإنسان، وبالتالي فهو ليس بكائنٍ متجاوز. فأنّى له أن يبلغ مقام من سُمِّي خليفةً في الأرض، وأسجد المولى له ملائكته؟
ختامًا، إن تفوّق الإنسان على الذكاء الاصطناعي لا يكمن في جمع المعلومات، بل يتمثل في استعداده للتجلي، وكذا قدرته على أن يكون مرآةً للحق، لا آلةً لتجميع البيانات. وهكذا، فإن إنسان الغزالي، العارف، السالك، هو كائن لا يكتب عن المحفوظ، بل عن المشهود، كما أنه يتغذّى من فيض لا تراه العين، لأنه يهدي في لجج الظلمات، ويزهر في أعماق القلب.



